الثلاثاء 21/مايو/2024

السلام على الدكتور رمضان عبد الله شلّح

ساري عرابي

يجمعني بالدكتور رمضان عبد الله حاكمان؛ حاكم العقل وحاكم الوجدان، وكل منهما يأخذ من الآخر أهمية وصدقًا، فلا تطغى العاطفة ولا المحاكمة المجرّدة، وهذا يعني أن العقل يشهد له، والوجدان يصدقه الحبّ، ولا يخلو المرء من مساحة ذاتية تتسع وتضيق في اقترابه من الرجال موقفًا وكلمة، فالبلاغة في الصدق، وأصدق ما يكون عليه المرء إحساسه بالأشخاص تأثّرًا بهم وانعكاسًا لوجودهم..

وكنتُ في مطلع مراهقتي، بعد دخول السلطة، وإصدار حركة الجهاد الإسلامي في غزة لصحيفة “الاستقلال” حريصًا على شراء هذه الصحيفة في موعد وصولها رام الله، معجبًا بثلاث زوايا فيها، تُكتب بلغة أدبية رائقة، لم أكن أجد مثيلاً لها في صحيفة أخرى كانت تصدرها حماس وتدعى “الوطن” أنتظرها وأشتريها أيضًا، ودفعتُ ثمن هذا الشغف نهار اعتقال ذات مرّة، ولهذا قصة، أوان سردها مؤجّل عن هذه الكلمة..

وأمّا زوايا الاستقلال الثلاث فهي “مرايا” و”نجوم على جبين الوطن” و”مذكرات مقاتل قديم”، ولعل ذاكرتي تعوزها الدقة في تسمية الزاويتين الأخريين، لكنها ما تزال تحمل الكثير من أثر زاوية “مرايا” التي يكتبها محمد الفاتح، والتي حفظتُ بعض أعدادها وخطبتُ بها في إذاعة المدرسة الصباحية..

لم يكن الدكتور فتحي الشقاقي، رحمه الله، قد استشهد بعد، وإذن يمكنك أن تدرك كيف انغمست تلك الصحيفة في بعض زواياها في بلاغة الفكرة، وكيف كانت تفوح منها رائحة تسيح في النفس عاطفة وذكاة، باعثة على حنين صادق غير زائف لمراهق مثلي كان من أوائل ما اطلع عليه في هاجرة طفولته قراءة وثقافة بعض ما كتبه الشقاقي ورفقته الأولى في “الطليعة الإسلامية” و”المختار الإسلامي”، ثم ها هو يجد صورة حاضرة تستدعي مثال ما تفتّح عليه أول طلعته.. وَجَدَ روح الشقاقي ساعة حياته حاضرة في بعض مكتوبات تلك الصحيفة، حتى وإن لم تكن بخطه، وهكذا فإنّ الغياب الماديّ فادح دائمًا مهما تسلّينا بحقائق تُعزّي أو مواعظ تُهوّن المصاب..

ثم علمتُ فيما بعد أن محمد الفاتح، هو الدكتور رمضان عبد الله الذي صار الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، ثم يمكنك أن تتخيل بعد ذلك فداحة الفراغ الذي خلّفه في ميدان الكلمة والفكرة، بانتقاله لموقع الإدارة بانشغالاتها ومشكلاتها وعويصاتها، وهي مشكلة مركّبة، فلا أحد أكمل على مشروع الشقاقي الذي بدا وكأنّه طفرة ظلّت في الخلف وحيدة وقد انقطع عنها ما بعدها، وكنتُ استرجعتُ تلك النصوص الأولى من قريب أثناء عملي على رسالة الماجستير، ومع ما يصير إليه المرء بالسنّ والتجربة والاطلاع فقد ظلّت تلك النصوص تحمل سمات الفرادة والإضافة إن أُخذت في سياق زمانها..

يظلّ الخطاب السياسي العامّ الذي قدّمه الدكتور رمضان من موقعه السياسي والقيادي، أحسن ما قُدّم في واقع القضية الفلسطينية القريب والراهن، من جهة صوابيته وقوته ودقته وكفاءة صاحبه البلاغية، وهي إضافة مهمة بالنظر إلى حالة من الرداءة العامة يعاني منها الجميع، وانغلاق المسارات التي انحشر فيها الجميع، وظلّت تحتاج الصوت الذي يدحضها ببرهان المنطق وبلاغة اللفظ وحضور الشخص، وللأسف يمكننا أن نتحدث الآن عن فادحة أخرى وهي غياب هذه الإضافة بالنظر إلى الحالة الوطنية عامّة، والحركة الإسلامية بطرفيها خاصّة..

أما الدور القيادي للدكتور في حدود تنظيمه، فهو مما لا يمكنني الحديث فيه في وقفة عجلى كهذه، لعدم انتمائي لحركته وبالتالي انعدام مباشرتي لأوضاعها الداخلية وأسرارها، وحينئذ فلا مناص من التأثّر بما سمعته ممن عاينوا ما غاب عني، ثم لأنّ أمرًا كهذا يحتاج بحثًا أدق واستقصاء أوسع، فيبقى لي الأمر العام الظاهر، والشخصي القارّ في الوجدان..

والحاصل أن جريان الزمن قرّب إلى نفسي الدكتور رمضان في خطابه السياسي العام، واحتفظ لي بمراياه القديمة صقيلة في وجداني زادت إلى براءتها الأولى حنين الزمن واشتعال العمر، دون أن يتوفر لي من دواعي النقد والخصومة ما يمكن أن يتوفر لو انتميت لتنظيمه وتصادمت مع حضوره وإدارته، وهو أمر، والحال هذه، يبعث على البهجة، فالمرء ما يزال يحتاج إلى حضور آدمي في نفسه مجرد عن دفع الناس بعضهم لبعض!

وثمة خسارة ثالثة، وهي أن هذه الفرادة التي تجلت في إضافة الشقاقي مفكّرًا ومؤسسًا ومحوّلاً في مجرى التاريخ، وإضافة رمضان عبد الله مثقّفًا ومنظّرًا وخطيبًا بارعًا في إزهاق الباطل السياسي.. ظلّت طفرة فردية، لم تتحول إلى ظاهرة في حركتهما، ولا في عموم الحركة الإسلامية، ولا في عموم الحركة الوطنية..

نسأل الله للدكتور رمضان الشفاء والعافية، الأجر على ما قدم، والتجاوز عمّا أخطأ، ولخليفته زياد نخالة التوفيق والسداد..

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات