الثلاثاء 28/مايو/2024

لماذا لا يتذكر دعاة التسامح مذبحة جنين؟

لماذا لا يتذكر دعاة التسامح مذبحة جنين؟

ضمن مسلسل الإرهاب والإجرام الإسرائيليين تحل هذا الشهر الذكرى السنوية الخامسة لمذبحة مخيم جنين. ففي التاسع والعشرين من مارس عام 2002 اقتحم الآلاف من الجنود الإسرائيليين مخيم جنين، مسلحين بالدبابات وبطائرات الأباتشي الأميركية، وكل صنوف العتاد الذي يمكن تخيله، ليدكوا المخيم على ساكنيه، في واحدة من أشرس وأقذر مذابح الإسرائيليين ضد الفلسطينيين.

امتد حصار المخيم لمدة أسبوعين قبل أن يقتحمه الجيش الإسرائيلي، مخلفاً أعداداً لا تحصى من القتلى، المقاومين والمدنيين، الرجال والنساء والأطفال، الأسوياء والمعاقين، ومسوياً معظم المنازل على رؤوس ساكنيها.

ويؤكد البعض قيام الجيش الإسرائيلي بعمل حفر عميقة أخفى فيها جثث القتلى، بعد أن أشارت الكثير من الهيئات الدولية إلى حجم الكارثة التي خلفها الجيش الإسرائيلي في المخيم. وحتى تُسمى الأسماء بمسمياتها، فإننا نستخدم كلمة جيش هنا على سبيل المجاز. فما قامت به القوات الإسرائيلية عبر تاريخها الدموي في فلسطين، هي ممارسات تنتمي لأعمال العصابات والإرهاب، ولا تمت بصلة على الإطلاق لأية أعراف عسكرية تؤكدها المعاهدات والتشريعات الدولية.

فما حدث في جنين لم يكن حرباً ولم يكن مواجهة عسكرية حقيقية بين قوتين يوجد بينهما قدر ما من التكافؤ، بقدر ما كان هجمة عدوانية دموية شرسة استباح فيها الإسرائيليون المخيم، كما استباحوا ساكنيه. وما حدث في المخيم هو صورة طبق الأصل لما حدث في الجنوب اللبناني، حيث القتل والتدمير هما عنوان الممارسات الإسرائيلية.

ما يلفت النظر هنا أن سيناريو القتل والتدمير الإسرائيلي لم يتغير عبر كل ممارساته ومذابحه ضد العرب بعامة، وضد الفلسطينيين بخاصة. فالذي يحدث أن الإسرائيليين يبدأون حملتهم بالقتل والتدمير تجاه الفلسطينيين، حيث يمنحهم الغرب وأميركا تفويضاً مطلقاً بهذا القتل والتدمير. وفي القلب من عملية القتل والتدمير هذه تؤكد اللجنة الرباعية والبيت الأبيض على ضرورة ضبط النفس، وعلى ضرورة وقف الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الفلسطينيون ضد الإسرائيليين.

يشتمل هذا السيناريو على قدر كبير من العبث ومن المماطلة والتسويف. مطلوب من الفلسطيني وفقاً لهذا السيناريو العبثي أن يقبل أن يُقتل وأن يُشرد وأن يصير لاجئاً، عليه أن يقبل كل ذلك وهو صاغر خاضع خانع وألا يلوم جلاديه وقاتليه.

كما أن هذا السيناريو يتسم بالمماطلة والتسويف من حيث إنه لا يضع حدوداً للقتل والتدمير الإسرائيليين. فكل ما تراه الدولة العبرية الدموية مؤازراً لوجودها، وعلى رأسه قتل وتشريد الفلسطينيين سوف يؤيده الغرب وتدعمه أميركا وتمارسه “إسرائيل”، بدون خوف أو وجل أو أي تقدير للمواثيق والتشريعات الدولية.

ما يحدث للفلسطينيين منذ نشأة الدولة العبرية هو قتل مجاني، تحول من كونه قضية شعب مغتصب، إلى حقوق لاجئين، إلى مجرد مشاهد تلفزيونية تنقلها المؤسسات الإعلامية الدولية غير المحايدة، الأميركية غالباً، بالطريقة التي تحلو لها، والتي تصب في مصلحة الطرف الإسرائيلي. فقد حولت أجهزة الإعلام الغربية القضية الفلسطينية إلى قضية لاجئين ومساعدات في أفضل الأحوال، وإلى قضية مجموعة من الإرهابيين الانتحاريين الذين يزاحمون الإسرائيليين أرضهم في أسوأ الأحوال.

وإذا كان هذا هو حال الطرف الغربي الأميركي غير المحايد دائماً تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فإن ما يدعو للاندهاش هو الموقف العربي ذاته من القضية الفلسطينية الذي أصبح أكثر توحداً مع الأجندة الصهيونية الأميركية وتجلياتها المختلفة في المنطقة. فالبعض يتدخل من أجل الإفراج عن جلعاد شليط الذي أصبح أهم من كل الأسرى الفلسطينيين.

وعلينا أن نذكر هنا بأن شليط هذا هو أسير إسرائيلي وقع في قبضة المقاومة الفلسطينية، حتى لا يعتقد البعض بأنه أسير فلسطيني أو عراقي!! كما أن البعض يحاول الآن أن يفرض أجندته الخاصة به على الفلسطينيين لكي يقبلوا بحلول نهائية لقضيتهم، وهى حلول تصب في النهاية في مصلحة الطرف الإسرائيلي. ولا يخفي على البعض الآن أن بعض الحكومات العربية أصبحت لا تتدخل في القضية الفلسطينية إلا من أجل تحقيق بعض المصالح الإسرائيلية وليس المصالح الفلسطينية.

وفي الآونة الأخيرة تبعثرت الإشاعات التي قد لا تخلو من بعض المصداقية حول التفاوض حول حق العودة للفلسطينيين، وتعويض هؤلاء الذين يقبلون بالتوقيع على عدم العودة. وقيل من ضمن ما قيل بأن بعض الحكومات العربية سوف تتبنى هذا المشروع، بما في ذلك مسألة التعويضات للفلسطينيين في الشتات.

لقد أصبحت القضية الفلسطينية لدى البعض في العالم العربي هماً يجب التخلص منه، وإيجاد أية تسويات يقبل بها الفلسطينيون، بغض النظر عما تحققه من مصالح للشعب الفلسطيني في الداخل، وفلسطينيو الشتات في الخارج. لا يريد البعض أن يتحمل عبء القضية الفلسطينية، ناسياً أو متناسياً أن القضية الفلسطينية ذاتها هي عنوان العالم العربي، إن صلحت صلح الباقي، وإن فسدت فسد الكل.

وأن ما يحدث في العراق الآن، ليس ببعيد عن القضية الفلسطينية، وأن ما يحدث في الغد القريب في الكثير من دول العالم العربي لن يكون بعيداً أيضاً عن القضية الفلسطينية، وهذا ما يحاول البعض تجاهله أو التملص منه. واللافت للنظر أيضاً أن يتخذ البعض القضية الفلسطينية الآن وسيلة يقتات بها رضا الغرب، ويستجدي من خلالها صكوك غفران البيت الأبيض.

تأتي الذكرى الخامسة لمذبحة جنين في ظل ضعف وتردي العالم العربي، ورغبة قوية تلف جنباته بتجاهل القمع الإسرائيلي، وتجاهل الحصار اليومي للشعب الفلسطيني. فلم يعد يهم البعض في العالم العربي تذكر المذابح الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ربما يشترك هذا البعض في ذكرى رابين لكنه يتناسى تماماً مذبحة جنين.

وإذا كان هذا هو حال بعض الأنظمة في العالم العربي، فإن ما يغيظ فعلاً هو أن يتحدث بعض المثقفين، إذا جاز الوصف، في العالم العربي عن شيوع ثقافة الكراهية في عالمنا العربي وعن شيوع الإرهاب، في الوقت نفسه الذي يؤكدون فيه على ضرورة شيوع ثقافة التسامح التي يفتقدها العالم العربي المعاصر.

لا يستطيع أي من هؤلاء التبريريين المتأمركين أن يتذكر مذبحة جنين، أو يوجه سهام نقده نحو الدولة العبرية، لكن من السهل أن يوجهها لأهله وذويه، وأن يُعمل فيهم معول النقد والتجريح.

أخطر ما تواجهه القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي الآن هو هذه النوعية من الكتاب التي تستطيع أن تقلب الحقائق رأساً على عقب، وتستطيع أن توهمنا بأننا القتلة الإرهابيون المتعطشون للدماء، بينما الإسرائيليون وأربابهم الأميركان هم سدنة الحضارة والتقدم والقيم الليبرالية. تلك القيم التي لا يتوانون في كل لحظة عن الدعوة لها، مهما كانت القيم الزائفة التي يُلبسونها لها، وعلى رأسها قيم الخضوع والخنوع والتسامح.

في الذكرى الخامسة لمذبحة جنين لا يملك المرء سوى كلمات مرتعشة يهديها للشهداء الفلسطينيين، ولكمات أخرى صارمة يهديها لأصحاب دعوات التسامح الخانعة.

* صحيفة البيان الإماراتية 13/4/2007

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات