عاجل

الثلاثاء 21/مايو/2024

رغم إعادة الانتشار في غزة.. إسرائيل لا تزال دولة احتلال

د. محمود حنفي

احتفل الفلسطينيون في قطاع غزة قبل عدة أيام بذكرى إعادة انتشار جيش الاحتلال من قطاع غزة وإخلاء المستوطنات نهائيا منه.

تسمي المقاومة الفلسطينية ذلك انتصارا على الاحتلال أجبره على الانسحاب من القطاع في سبتمبر/أيلول 2005. طرحت إسرائيل، بعد إعادة الانتشار هذا، نظرية ثم طبقتها مفادها أنها لم تعد مسؤولة عن قطاع غزة وأنها لم تعد دولة احتلال بالمعنى القانوني. ثم فرضت حصارا محكما على سكانه تسبب بآثار إنسانية بالغة السوء متذرعة بأنه يأتي في إطار الدفاع عن النفس.

نناقش في هذا المقال نقطتين، الأولى: التقييم القانوني لخطوة إعادة الانتشار هذه، وهل تشكل انسحابا عسكريا يعفي الاحتلال من مسؤولياته القانونية تجاه سكان قطاع غزة؟ وما هو المصطلح القانوني الأفضل في هذه الحالة؟ والثانية: موضوع الحصار المفروض على قطاع غزة، هل هو قانوني تقره الأمم المتحدة أم عمل عدائي محظور تفرضه دولة احتلال تحت ذرائع الدفاع عن النفس ومحاربة الإرهاب؟

أولا: التقييم القانوني لانسحاب إسرائيل من غزة
تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كيلومترا مربعا تسيطر إسرائيل على حدوده بالكامل وعلى شاطئ البحر الذي يبلغ طوله 45 كيلومترا. وفي 12 سبتمبر/أيلول 2005 أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي انتشاره في القطاع، واحتفظت إسرائيل لنفسها بالسجل السكاني والمجال المائي والفضائي، وشبكات الكهرباء والصرف الصحي، وتوزيع العائدات الضريبية وشبكة الاتصالات السلكية. هدفت هذه الخطة إلى تحقيق رغبة إسرائيل في “فصل” قطاع غزة عن مسؤوليتها القانونية، من خلال الاستمرار في رفض تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني. كما هدفت إلى التفرغ لتوسيع الاستيطان في الضفة وتهويد القدس واستكمال بناء جدار الفصل العنصري.

انسحاب أم إعادة انتشار؟
شكلت إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة أو ما تسميه حكومة الاحتلال “خطة الانفصال” المقدمة الأولى لبدء حصار القطاع. ورغم الاختلاف في التسمية بين “انسحاب” و”إعادة انتشار”، نفضل استخدام المصطلح القانوني إعادة انتشار دون التقليل من الإنجاز الكبير الذي حققته المقاومة الفلسطينية، على مدار عقود من التضحيات، من خلال إجبار جيش الاحتلال على إعادة انتشاره أو انسحابه كما تسميه القوى السياسية المقاومة.

إن جيش الاحتلال عبر عملية إعادة الانتشار لم يُنه الاحتلال بالمفهوم المادي والقانوني، فقد ظل قطاع غزة تحت المسؤولية السياسية للاحتلال العسكري الإسرائيلي

احتفظت إسرائيل بعد إعادة نشر قواتها بصلاحيات أمنية واسعة وبقيت مسيطرة على جميع منافذ القطاع، فضلا عن قيامها بالعديد من عمليات العدوان واسعة النطاق تحت ذرائع أمنية. وبقي الاحتلال مصدر الصلاحيات المدنية والأمنية الممنوحة للجانب الفلسطيني في قطاع غزة. فضلا عن ذلك، يجب على سلطات الاحتلال، بموجب تحلل إسرائيل من مسؤوليتها تجاه قطاع غزة، أن تعيد الأسرى إلى أوطانهم من دون أي تأخير عند وقف الأعمال العدائية الفعلية وفقا لنص المادة (118) من اتفاقية جنيف الثالثة، إلا أن سلطات الاحتلال لم تقم بذلك.

من المهم استخدام مصطلحات دقيقة بهذا الخصوص، ليس من باب الترف الأكاديمي، بل من باب التكييف القانوني الذي تترتب عليه مسؤوليات جزائية ومدنية. إن موضوع الانسحاب أو لفظ الانسحاب هو مصطلح سياسي قانوني يجب التعامل معه بصورة محددة لا تقبل التأويل، ضمن اتفاق واضح وشهود دوليين.

احتلال مستمر
وحتى لو فرضنا جدلا أن الاستيطان قد انتهى في قطاع غزة بموجب اتفاق أوسلو وأن ذلك -حسب الادعاء الإسرائيلي- يعني انتهاء الاحتلال، فإن غزة والضفة، بما فيها القدس الشرقية، تمثل وحدة جغرافية وسياسية واحدة “وإنهاء الاحتلال من جزء لا يعني نهايته”.

ونحن بدورنا إذا سلمنا بانتهاء الاحتلال من قطاع غزة نكون أمام مغالطة غير مسبوقة، وخاصة أن ذلك يعني إسقاط الحق في المقاومة، وفي أحسن الأحوال يعتبر سلوك الفلسطينيين المقاوم عنفا كما قال بذلك الأمين العام للأمم المتحدة قبل عدة أيام. إن جيش الاحتلال عبر عملية إعادة الانتشار لم يُنه الاحتلال بالمفهوم المادي والقانوني، فقد ظل قطاع غزة تحت المسؤولية السياسية للاحتلال العسكري الإسرائيلي، وهذا هو تعريف الاحتلال ومضمونه.

وفي 19 سبتمبر/أيلول 2007، أعلنت حكومة إسرائيل أنها قررت اعتبار قطاع غزة كيانا معاديا، وأنها ستفرض قيودا ستطبق، بعد دراسة جوانبها القانونية مع الأخذ في الاعتبار القضايا الإنسانية، في قطاع غزة. من ناحية القانون الدولي الإنساني، ليس هناك فرق في التوصيف الذي أوردناه سابقا، حيث إن إسرائيل محتلة لقطاع غزة، كما ظهر في السياق بالأدلة والنصوص القانونية، وبالتالي واجبات إسرائيل ستكون ملزمة لها بقدر أكثر، لكونها أعلنت حالة عداء إضافة إلى احتلالها المستمر للقطاع.

ثانيا: حصار قطاع غزة غير قانوني
ينطلق البحث في هذه النقطة من مسألة مهمة، وهي أن الاحتلال لم يكتف بالتنصل من مسؤولياته تجاه قطاع غزة بل فرض حصارا محكما عليه، وبين هذا وذاك يروج الاحتلال لسلوكه على نطاق واسع في الأوساط الغربية وحتى العربية منها، خاصة بعد عملية التطبيع مع عدد من الدول العربية. ويلقى حصار قطاع غزة تفهما من الدول الكبرى في بعض الأحيان ودعما في أحايين أكثر، فضلا عن هشاشة مواقف الدول العربية في العموم.

تعريف الحصار
يمثّل الحصار أحد طرق العقاب الدولي، دون اللجوء إلى استخدام القوة المسلحة، ويُعَدّ وسيلة قد تضطر الدول أو المنظمات الدولية إلى اللجوء إليها في تعاملاتها الدولية. ويعرّف قاموس بلاك للقانون الحصار بأنه “عمل موجه ضد دولة معادية بقصد عزل أو إعاقة أو منع الاتصالات والتجارة والإمدادات والأشخاص من الدخول أو الخروج إلى تلك الدولة. ويمكن أن يكون هذا العمل من طريق البحر أو البر أو كليهما”.

حالات الحصار التي تفرضها الدول ذاتها من غير تفويض من مجلس الأمن، تُعد مخالفة للميثاق، وانتهاكا للقانون الدولي، كما تفعل دولة الاحتلال تماما تجاه قطاع غزة

وطبقا لهذا التعريف، فإن الحصار في الأصل يكون موجها ضد “دولة معادية”، وليس ضد شعب أو حركة مقاومة، وخصوصا إذا كان هذا الشعب أو هذه الحركة تحت الاحتلال.

قيود قانونية على استخدام الحصار
ومع أن تعريف العدوان في الفقرة (ج) من المادة الثالثة قد تحدّث عن الحصار البحري لموانئ دولة أو سواحلها، إلا أن النقاش القانوني وصل إلى النتيجة ذاتها، وهي تحريم الحصار البري واعتباره عملا عدوانيا أيضا. وعلى العموم، فقد حرّم القانون الدولي الحصار بصورة مطلقة وبمختلف أنواعه، سواء أكان سلميا أم حربيا، وسواء أكان بحريا أم بريا.

وعلى الرغم من أن المادة 51 من ميثاق الأمم أجازت لكل دولة حق اللجوء إلى “الدفاع عن النفس”، حينما يتعرض إقليمها لهجوم خارجي، فإن هناك اليوم شبه إجماع بين فقهاء القانون الدولي، على أن الحصار ليس من طرق الدفاع عن النفس المنصوص عليها في المادة 51.

من هنا يتبين أن ميثاق الأمم المتحدة ترك مجالا واحدا يسمح فيه باستخدام الحصار على أنه وسيلة لحل النزاعات الدولية، وهو حينما يكون الحصار بتفويض من مجلس الأمن ذاته. وقام مجلس الأمن بفرض عدة حالات بموجب الفصل السابع، منذ نهاية الحرب الباردة. وباختصار، فقد شملت هذه الحالات كلا من: السودان 1989، العراق 1990، يوغسلافيا السابقة 1991، الصومال 1993، ليبيا 1993، ورواندا 1994.

أما حالات الحصار التي تفرضها الدول ذاتها من غير تفويض من مجلس الأمن، فتُعَدّ مخالفة للميثاق، وانتهاكا للقانون الدولي، كما تفعل دولة الاحتلال تماما تجاه قطاع غزة.

ذريعة الدفاع عن النفس
تبرر إسرائيل حصارها لقطاع غزة بأنه حصار قانوني يندرج في إطار الدفاع عن النفس، حيث إن حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة تطلق صواريخ على السكان المدنيين في إسرائيل، وهو ما يوجب عليها كونها دولة الدفاع عن مواطنيها ضد أي “اعتداء”. ومع أن هذه الحجة ضعيفة أمام الرأي القانوني القاطع، وأمام الآثار الإنسانية الخطيرة الناجمة عن هذا الحصار، إلا أنه لا بد من التذكير بأنّ إسرائيل هي دولة احتلال بموجب أحكام القانون الدولي الإنساني.

والسؤال المطروح هنا هو: هل يمكن تبرير الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة من باب الانتقام غير العسكري في القانون الدولي الإنساني؟

إن القانون الدولي العام وحتى القانون الدولي الإنساني فصّل الحالات التي يجوز فيها اللجوء إلى الانتقام غير العسكري، وهذه الحالات يجب ألا تشمل أي إجراء يخالف القواعد الأساسية لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كالحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، لأنه يتنافي مع قواعد إنسانية عديدة، ولأنه يحرم أناسا أبرياء من حقوقهم الفطرية، كالحق في الحياة.

عواقب التقييم القانوني السليم
إن التقييم القانوني السليم لوضع قطاع غزة، باعتباره أراضٍ محتلة، تترتب عليه حقوق والتزامات قانونية واضحة يمكن للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الاستفادة منها، أهمها حقه في الدفاع عن نفسه ومواجهة الاحتلال. كما تترتب أيضا في المقابل، التزامات على الاحتلال نفسه تجاه السكان المدنيين يمكن أن يشكل عدم احترامها جرائم حرب وتترتب عليها مسؤوليات جزائية ومدنية جسيمة.

كما أن الحصار المفروض على قطاع غزة انطلاقا من اعتبار الاحتلال قطاع غزة كيانا معاديا هو غير قانوني لأنه حصار تفرضه دولة احتلال على شعب هي أصلا مسؤولة عن توفير الحماية الشاملة له، كما أن تغاضي الأمم المتحدة عن جريمة الحصار هو بحد ذاته مشاركة في هذه الجريمة.

*أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات