الأحد 19/مايو/2024

ورشة المنامة: أفكار معطوبة ورؤى مستحيلة

مثنى عبد الله

دفعة واحدة جاءت الوعود الوردية في ملتقى البحرين الاقتصادي. قالوا خلال عشر سنين ستتغير أوضاع أهلنا في فلسطين المحتلة، لأنهم سيحصلون على 28 مليار دولار. بها سيتم تخفيض نسبة الفقر إلى النصف، ونسبة البطالة إلى أقل من 10%، وستكون هنالك مليون فرصة عمل. شوارع جديدة ومصانع ومعامل وبنى تحتية، وبرامج تعليم عالية المستوى، ومؤسسات صحية مرموقة.

لكن الأمريكيين يقولون قبل أن يقبض الفلسطينييون دولاراً واحداً عليهم القبول بالحل السياسي. وهذا الحل هو لا دولة فلسطينية، ولا عودة للاجئين، ولا حدود، ولا مستقبل للقدس كعاصمة لهم، أي أن كل العناصر الأساسية للقضية الفلسطينية غير موجودة. ومع ذلك يقول مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، إن هذه التصورات الاقتصادية لن تكون رشوة للفلسطينيين، لكنها فرصة مهمة سيشكل إهدارها خسارة كبرى لهم، فأي خسارة أكبر من أن يذهب نضال أمتنا وشعبنا الفلسطيني على مدى أكثر من سبعين عاماً سُدى؟

نعم إنها رشوة بثمن بخس، وكل ما تم طرحه كان أفكاراً معطوبة ووعوداً بائسة. لأن الدماء الفلسطينية والعربية التي سُفكت على أرض فلسطين، والمظالم الجمة التي تحملها شعبنا، والتهجير واللجوء والاعتقالات والاغتيالات، يقينا لم تكن يوماً من أجل بضعة مليارات من الدولارات، ولا من أجل مستلزمات حياتية بسيطة. لذلك كان من المُبخس حقاً أن تكون كل الرؤى والأفكار التي طُرحت في ملتقى المنامة تعاملت مع القضية الفلسطينية ومعاناة أهلنا على أنها معضلة اقتصادية لا أكثر، وليست قضية حرية شعب وحقه في تقرير المصير. في حين أن كل قرارات الأمم المتحدة عرّفت هذه القضية على أنها سياسية وبحاجة إلى حل سياسي. 

وإذا كان الجانب الأمريكي قد تخلى تماماً عن حياديته في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وذهب بعيداً في الانحياز إلى حد التبني الكامل لكل أفكار ومواقف الليكود واليمين الإسرائيلي، بل باتت الإدارة الحالية أكثر صهيونية من قطاعات صهيونية داخل الكنيست الإسرائيلي، من خلال الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة ل”إسرائيل”، وسيادة “إسرائيل” على الجولان المحتل، وخفض التمويل للفلسطينيين، ثم إيقافه تماماً، وتهميش وكالة الأونروا، وإغلاق مكاتب السلطة الفلسطينية في واشنطن، ودفع الاقتصاد الفلسطيني إلى التأزم والشلل. إذا كان كل هذا هو ما قامت به الإدارة الأمريكية الحالية، فكيف بعد اليوم يمكن الوثوق بحل يأتي منها؟

على الجانب الآخر يُثار سؤال جوهري آخر، عندما يقول العرب إننا نرفض ما يرفضه الفلسطينيون ونقبل ما يقبلون به، إذن أما كان الأجدر بهم أن يحترموا الرفض الفلسطيني، وأن لا يقيموا هذا الملتقى على أرض عربية، وأن لا يحضروا ولا يطبلوا له؟ كل المبادرات الاقتصادية والسياسية التي كانت تلامس القضية الفلسطينية عُقدت في دول أخرى ليست عربية، إلا الورشة الأخيرة عُقدت في أرض عربية، لماذا؟ لكن إذا عرفنا السبب بطلت الحاجة للتساؤل.

فمنذ تحوّل دول عربية كانت تاريخياً هي الفاعلة في صناعة القرار العربي، ولها حق النقض في المسألة الفلسطينية، إلى دول فاشلة، أخذت دول الخليج العربي هذه المكانة على عاتقها، وباتت هي من يحتكر المسارات العربية، ولأن الأوضاع السياسية والأمنية التي تمر بها هذه الدول بالغة الخطورة، فإن كل قرارات واشنطن ستكون مُستجابة اليوم أكثر مما مضى، لذلك كان المشاركون العرب في ملتقى المنامة صنفين. الأول هم الذين يريدون إرضاء الحليف الأمريكي لمواجهة إيران بأي ثمن. والصنف الثاني هم الذين لا حول لهم ولا قوة ومصيرهم بيد الأمريكيين، وإن لم يحضروا فإن الضغوط العسكرية والأمنية والاقتصادية جاهزة لهم.

المفارقة الكبرى في هذا الملتقى هي أن المال المعروض في هذه الصفقة هو مال عربي، وأن الأرض والحق اللذين سوف يُمنحان لـ”إسرائيل” هما أرض وحقوق عربية، أي أن واشنطن تشتري الماضي والحاضر والمستقبل الفلسطيني بأموال عربية كي تعطيها هدية إلى “إسرائيل”، بل حتى هذا المال سيكون مطلوباً من أهلنا في فلسطين تسديده لاحقاً، لأن 25 مليار دولار منه ستكون قروضاً، و11 مليار دولار استثمارات أجنبية.

ولو نظرنا إلى كل المقترحات الاقتصادية التي طُرحت في لقاء المنامة، سبق وأن وردت في اتفاقيات سابقة، لكن أيا منها لم يتحقق وتمت عرقلة تنفيذها. وبعد اتفاقيات أوسلو كانت المبالغ المرصودة للقضية الفلسطينية بحدود 600 مليار دولار، وليس 50 مليار دولار كما اليوم، وكذلك لم نسمع أي شيء عن هذا المبلغ. أسباب ذلك معروفة جداً، وهي أن “إسرائيل” ليس لديها خيار استراتيجي للذهاب إلى السلام، ليس اليوم بل منذ بدايات القضية الفلسطينية، لذلك فإن مصير ملتقى المنامة سيكون كمصير ما سبقه من المؤتمرات واللقاءات والمشاريع السياسية والاقتصادية، وأن مخرجاته محكوم عليها بالفشل، لأن أي ترتيبات من دون النظر إلى الحقوق السياسية لن تساعد في حصول اختراق مهم في هذه القضية. كما أن التنمية التي تنقل الواقع الاجتماعي من حال إلى حال آخر مختلف تأتي بقرار سياسي، وليس بالفرض والمساعدات عديمة الجدوى.

إن الأصوات النكرة والمنكرة المنادية بضرورة التوقف عن الرفض التاريخي للطرف الآخر، والنظر بما يسمونه منظوراً آخر للواقع والظروف المستجدة، إنما يدعون إلى الاستسلام بدون شروط مسبقة باسم الواقعية والتحضر. لكنّ شعبنا العربي في فلسطين أسقط الهدف الأول لصفقة القرن، وهو حضور الشطر الاقتصادي الممهد للشطر السياسي، الذي يعني التخلي عن الأرض والدولة وحق العودة والقدس.

كما كان الهدف الثاني للورشة هو قبول “إسرائيل” والتطبيع معها. فعلى الرغم مما قيل من عدم وجود “إسرائيل” على الطاولة، لكن وجود مسؤولين وصحافيين ورجال أعمال منها مع عرب لا يقيمون علاقات معها، هو محاولة لكسر الحاجز النفسي، فالمستفيد الأول من الصفقة هو العدو الصهيوني الباحث عن الشرعية بالتخلي الفلسطيني عن قرارات الأمم المتحدة وبيع أرض فلسطين. كما تسعى للحصول على القبول العربي بها، الذي يضمن لها الانفتاح على الدول العربية الغنية كي توظف التكنولوجيا التي تملكها بالمال العربي.

إن التحولات الدولية والإقليمية التي حصلت مؤخراً، رغم الواقع السياسي الفلسطيني الداخلي الضعيف، لكن لا أحد يستطيع أن يعتبرها ظرفاً مُشدداً يستوجب التخلي عن ثوابت الحق الفلسطيني والعربي، حتى إن تغزل وزير الخارجية البحريني بورشة المنامة، حين اعتبرها مُغيّراً آخر للعبة مثل كامب ديفيد.

صحيفة القدس العربي اللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات