الثلاثاء 21/مايو/2024

طلقة أخيرة

حيدر المصدر

ظهرت مؤخراً مؤشرات حول نهج إسرائيلي يقوم على محاولة ضبط الخيارات التي من الممكن أن تلجأ إليها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. ولأن معنى “الضبط” متشعب ومتشابك، رأينا أن نقدم لأحد أشكاله المهمة، المتمثل في إستراتيجية “التحكم اللاإرادي”. والأخير، هو مفهوم روسي الأصل، يشير إلى الطرق والأساليب التي يتم بمقتضاها تشكيل إدراك الطرف الآخر للواقع أو الحدث، بحيث تؤدي به طواعيةً إلى تبني سلوكيات أو قرارات متوقعة سلفاً.

والمفهوم ببعده المعلوماتي، يرتكز على مدى ما يمنحه المشغل لنفسه من قدرة على تنبؤ خطوات الخصم، من خلال ضخ أو فبركة حزم معلوماتية مدروسة، تؤثر بمرور الوقت على آلية صنع القرار لديه، أو على نوعية القرارات الصادرة عنه، لتقترب من التوقعات والخيارات التي يرغب بها، ما يمنحه فرصة التحكم الكامل في الحالة القائمة لأطول فترة ممكنة. ويمكن للمفهوم أن يتمدد ليشمل جميع المحاولات التي تنفذ من أجل تحقيق سيطرة غير محسوسة على الإرادة، بشرط ألا يشعر المستهدف أن خياراته مرصودة، ومتوقعة سلفاً. ولعل الخطير هنا، أن الجهة التي تحسن توظيف هذه الإستراتيجية، تستطيع التحكم في مآلات الأحداث ونتائجها، سيما إذا ما أحسنت مزامنة الإجراءات العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية بشكل متمازج ومنسق.

من زاوية أخرى، تعتبر عملية “التجهيل” أو “التضليل” أساسية للفكاك من التحكم، خاصة إذا ما تأكدنا من محاولات الخصم رصد نقاط الضعف، أو سعيه للتعرف على آلية وكيفية اتخاذ القرار، إلى جانب معلومات أخرى يمكن أن تخدم مسعاه. وتعتبر منهجية “جز العشب” واحدة من الأشكال التي تطبقها “إسرائيل” لتحقيق تحكم لاإرادي على الحالة الفلسطينية؛ فعبر تنفيذ أعمال عسكرية كبرى أو محدودة، بهدف “ضبط” قوة الخصم وإعادة صياغة أوضاعه وقدراته، يمكن لها أن تتنبأ بخياراته اللاحقة، سيما وأنها تزامن بين الفعل العسكري والحصار الجغرافي والاقتصادي.

ولأن أي إستراتيجية لا بد وأن تخدم هدفا سياسيا كبيرا، فالتحكم اللاإرادي ما هو إلا الطلقة الأخيرة التي في جعبة “إسرائيل” لتحقيق تحول جذري في سياسة قطاع غزة تجاهها، عله يتشابه مع توجهات حركات فلسطينية أخرى، استطاعت “إسرائيل” -عبر ممارسة تحكم مدروس- جرها إلى المربع الذي ترغب. ومن المتوقع هنا، أن تتعاظم جهود الكيان في مجال التحكم داخل قطاع غزة، لتشمل أبعادا أو نطاقات جديدة، بموازاة تلك الاقتصادية والعسكرية، بحيث تأخذ أشكالا اجتماعية، تطال وحدة وترابط النسيج المجتمعي، علها تتمكن من إغلاق الدائرة، وبالتالي تقليص الخيارات المتاحة للرفض والممانعة.

وعلى أي حال، أثبتت التجارب السابقة أن ما يرفضه الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يمر، وأن جهود الكيان في مجال التحكم اللاإرادي ما هي إلا استثمار محكوم بالفشل، لتناقضه مع صفة فلسطينية متأصلة، قوامها المباغتة والمفاجأة. ولعل الانتفاضتين الأولى والثانية دليلان كافيان على صحة ما أقول.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات