الإثنين 27/مايو/2024

الحرة إسراء جعابيص كما عرفتها

النائب سميرة حلايقه

كأنني وإسراء على موعد عندما شاهدتها تقف في ساحة سجن هشارون وسط تل الربيع، قبل أن يعانق الربيع الأرض في 1032017، كانت فتاة لطيفة يطلقون عليها (البدوية الثائرة) واسمها شاتيلا أبو عيادة تعرفني على جموع الأسيرات، عندما شاهدت إسراء عرفتها من طول قامتها، والتي جاوزت جدران السجن، قفزت من على درجات الباحة المخصصة للفورة وذهبت إليها لأعانقها، كنت أنظر إلى جبينها العالي والدموع حائرة بين زخات المعاني التي أمطرها المشهد.

دعتني إلى غرفة السجن، نظرت إليها كمن ينظر إلى نخلة، فما مضى من وقت الفورة هو ثلث ساعة وكان لدينا من الوقت كي نتحدث، في العادة كنت أراها لا تحب الحديث عن نفسها، فالمشهد واضح تماما، أما أنا فقد قرأت في عينيها القصة الكاملة، وقبل أن تتحدث عندما قلت لها كيف الحال يا إسراء فقالت هذا (أنا) ونظرت إلى يديها، وكم كانت مساحة الوجع تبدو على ملامحها.

لكنها قوية بما يكفي لتقنعني أن هذا قدرها وأنها راضية، وأملها كبير بمن يملكون مفاتيح السجون، أولئك الرجال الرجال الذين لا يخلفون الوعد.

قلت لها يوما أنت يا إسراء تملكين روحا جميلة، فردت عليّ بابتسامة رقيقة ولم تتكلم، فأدركت أن ابتسامتها لا تمر إلا عبر أخاديد الحزن الدفين.

إسراء أيها السادة، مكثت شهورا عدة وهي تعالج في مستشفيات الاحتلال، وبالرغم من ذلك أخضعت للتحقيق بعد ساعات من اعتقالها.

قالت لي حينها إنها عندما استفاقت من غيبوبتها بعد وقت قصير من دخولها المستشفى شاهدت أصابع يديها كانت محروقة، ولكنها لم تكن مقطوعة، ولكنها صدمت بعد أن أجريت لها عدة عمليات أنها فقدت أصابع يديها.

وتقول إن المحققين استهزؤوا بها أثناء التحقيق فقد كانوا يضعون لها المرآة ويقول لها المحقق ستعيشين بقية عمرك بهذا المنظر، وفي إحدى جلسات التحقيق سألها المحقق ماذا كنت تعملين، فقالت له أعمل ضمن مؤسسات وجمعيات كمهرجة أتنقل بين المؤسسات والمدارس الخاصة ورياض الأطفال، فرد علي المحقق قائلا ستمضين بقية حياتك كالمهرج. كم هو مؤلم لإسراء أن تسمع هذا الكلام، لكنها كانت ترد بمزيد من الشموخ سأخرج يوما وسأعود كما كنت.

وعندما كانت تخرج إلى عيادة الطبيب كان المعتقلون اليهود من أصحاب الجرائم الذين يمرون من جانبها في الممرات يتهجمون عليها ويسبونها ويقولون لها أنت تستحقين ذلك، وكانت إسراء ترد لهم السباب بلغتهم وبأسلوبهم.

بعد أن يغلق السجان البوابة، وتغلق الأبواب الداخلية للغرف بعد الساعة الخامسة وحتى الساعة العاشرة من اليوم التالي (كانت إسراء تمضي وقتها معنا، كنا ننشد الأناشيد والأهازيج وكانت إسراء الجميلة تجلس معنا تعكف على صنع الألعاب والأشكال من قطع الكرتون أو من علب السمك الفارغة تخبئ بعضها لابنها معتصم تهديها له وقت الزيارة، وتحتفظ بالباقي كي تستخدمها في الفقرات الترفيهية للقاصرات اللواتي وصل عددهن إلى 14 قاصرا أثناء وجودي بالسجن.

أما ابنها معتصم (10 أعوام) فقد كان جل حديثها واهتمامها وحنينها إليه، فقد كانت تحدثنا القصة تلو الأخرى عنه وعن طفولته ولا تمل.

كثيرا ما كانت الإبرة المكسورة الرأس يدخل خرمها في يدي إسراء وهي تجتهد لصناعة الأشياء لإسعاد الآخرين بالرغم من أن أصابعها ملتصقات مع بعضهما.

ولم تترك لدينا مساحة للحزن، فعندما كان البكاء يداهمني عندما أتذكر طفلتي ابتهال، كنت أدفن وجهي بالغطاء حتى لا ترى المعتقلات دمعتي، كانت إسراء تدرك الموقف بسرعة ثم ترفع الغطاء عن وجهي وتقوم ببعض الحركات المضحكة، ولا تتركني حتى أضحك.

أما المواقف التي تبكيها فقد كانت تبكي بحرارة كبيرة عندما تسترجع ذكرياتها خلال اعتقالها، فذلك اليوم المشئوم حيث كانت في طريقها إلى بلدة العيزرية حيث مكان عملها اليومي، وكانت قادمة من مدينة أريحا لم يكن أحد برفقتها، وكانت تحمل معها في السيارة أنبوبة الغاز لاستخدام بيتها، وجهاز التلفاز حيث كانت تنوي الانتقال من بيتها في أريحا إلى العيزرية، وعندما شاهدت سيارات الشرطة الإسرائيلية تقف على مدخل مستوطنة معالي ادوميم شرق مدينة القدس حيث كانت سيارات الشرطة تقوم بمهمة يومية  في حدود الساعة العاشرة من كل يوم، كانت إسراء تشعل “كنديشن” السيارة والمسجل، لكن الذي انفجر هو البالون الوقائي الموجود في مقدمة السيارة.

لا تدري إسراء ماذا حدث، لكن ما حصل فعلا هو اشتعال النيران في السيارة دون أن تتحطم النوافذ إطلاقا، فخرجت إسراء من السيارة حيث كان بمحاذاتها على الجهة المقابلة سيارة الشرطة، فاتجهت نحوهم كي يسعفوها.

الشرطة ابتعدوا عنها وأشهروا أسلحتهم، وتركوا النيران تشتعل في جسدها، وبعد مدة قصيرة جردوها من ملابسها وتركوها على الأرض، كم كانت تنتحب إسراء عندما تتذكر هذا الموقف، لكن شابا عربيا تواجد في المكان خلع جاكيت وألقاه عليها.

وقالت لي إسراء إن المحقق سألني وقت التحقيق هل تعلمين لماذا لم ينفجر زجاج السيارة: فأجبته لا أدري، فقال لأنك كنت تستخدمين (المكيف) ومع المكيف لم يتحطم زجاجها.

عندما كانت تبكي إسراء كانت تستقبل الجدار كي لا تلاحظ الأسيرات دموعها، لكنني كنت أحس أن للجدران نشيج وتأوه، فالألم كبير، أكبر من أن تحتويه جدران الغرفة.

إسراء كانت لا تستطيع النوم حتى ساعات الفجر، كانت تصلي الفجر وتغفو عيناها قليلا. ومع صلاة الفجر كان مجموعة من الشاباص يأتون للعدد، كان يتطلب منا أن نقف جميعا، ومن لا تقف تعزل بعيدا عن   الأسيرات لمدة ثلاثة أيام، وقد تزيد بحسب مقياس التمرد لدى الأسيرة. كانت إسراء تخرج ما تبقى من يدها خارج الغطاء، فكان الشاباص ينادي عليها بالاسم لإكمال العدد ثم يمضي.

الاحتلال أصر كثيرا على إدانة إسراء، لأن إسراء بالنسبة لهم وجه عريق من معالم القدس، لذلك أصروا على اعتقالها، ولذلك أصدر حكمه عليها بالسجن 11 عاما.

إسراء تعاني من حروق في الوجه أثرت على عينها اليمني وشفتيها وظهرها. ويا سادة إسراء احترق جزء من جسدها، وأكل الحزن قلبها، لكنه لم ينل من معنوياتها.

لا أحد يحب السجون، وأنا اعدّها قطعة من جهنم، لكن من يعيش مع إسراء يتمنى أن ترافقه إلى الحرية، فهي من تزرع الأمل في قلوب الجميع شوقا للحرية.

في ليلة انتقالي إلى سجن الدامون قالت لي ساعديني في تطريز هذه القطعة، فطرزت لها حرفين باللغة الإنجليزية، أول حرف من اسمها، وأول حرف من اسم ابنها المعتصم، وزينتها بوردة جميلة كروح إسراء.

عندما نادى حارس السجن علي كي أتأهب إلى الرحيل إلى سجن الدامون، أتت إلىّ شاتيلا أبو عيادة (البدوية الثائرة) عانقتني طويلا، كنا نبكي سويا، وكالعادة سمعت نشيج الجدار، ناديت على إسراء كي أودعها، لكن إسراء لم ترد علي، كانت حزينة لأنها طلبت مني أن أبقى معها في سجن هشارون، ولكنني لم أكن مختارة. قبلتها من رأسها عدة مرات، وقلت لها سامحيني ليتني كنت أملك البقاء.

ونقلت إلى سجن الدامون كان ذلك صباح 2-5-2017 كنت في طريقي أنظر من ثقوب البوسطة الصغيرة أتأمل تراب الرملة وعسقلان وحيفا وتل الربيع، والتي لم أشاهدها طوال عمري، وها أنا أدخلها مكبلة، وأسأل نفسي كيف ينام الرجال وإسراء في السجن.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات