الثلاثاء 21/مايو/2024

الأبعاد الرمزية والفعلية في المعركة الاستخباراتية بين القسام وإسرائيل

ساري عرابي

أخبرني ضابط تحقيق إسرائيلي من أصول فارسية، في واحدة من جولات التحقيق التي امتدت معي طويلاً في العام 2007.. أنه التحق بجهاز الشاباك محقّقًا؛ بعدما انكشفت هويته نتيجة خطأ ما أثناء عمله ضمن القوات الخاصّة في الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، كان ذلك إجابة على سؤالي عن كيفية التحاقه بالشاباك، والأسباب المتعلقة بذلك. نائب مدير طاقم التحقيق، في الفترة نفسها، حدثني مفتخرًا عن فرق من القوّات الخاصة تنفذ مهمات بالغة الحساسية في بلاد العالم، ومنها البلاد العربية، ذكر منها العراق، قال مفتخرًا، إنها أكثر احترافية وكفاءة من فرق المستعربين التي خبرناها نحن الفلسطينيين. قبل ذلك التحقيق كنت مطلوبًا لقوات الاحتلال لفترة وجيزة، واعتقلتني فرقة من قوات المستعربين من قلب مدينة رام الله.

هذه الحكاية الموجزة، من تجربة بسيطة، تعطي تصوّرًا جيدًا عن الخسارة الفادحة التي تكبّدتها المخابرات الإسرائيلية بعدما نشرت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، صور الوحدة الخاصّة التي أوقفتها إحدى مجموعات المرابطين شرق مدينية خانيونس في قطاع غزّة، وأحبطت مهمتها، وأدّت إلى مقتل قائدها وبعض عناصرها، ونتائج أخرى ما تزال مجهولة.

هذه الجولة من المعركة الاستخباراتية المفتوحة بين الاحتلال الإسرائيلي وبين كتائب القسام.. انطوت على بعدين: فعليّ، وآخر رمزي لا يقلّ أهمية ودلالة عن الفعليّ.

ببساطة، وحين الحديث عن البعد الفعلي، فإنّ كتائب القسّام، أحالت وحدة القوات الخاصّة إلى التقاعد الإجباري، وهذه داهية قد نزلت بالاحتلال، فقطاع غزّة الأكثر عداء لـ “إسرائيل” والمدجج بالمسلحين وفصائل المقاومة المتيقظة، لن تُدفع إلى قلبه إلا واحدة من تلك الوحدات التي أنفق الاحتلال كثيرًا على إعدادها وتأهيلها لزجّها في الأماكن الأكثر خطورة وحساسية، ويأتي قطاع غزّة اليوم في صدارة تلك الأماكن؛ وهو المكان الوحيد في العالم الذي يحتفظ بجنود إسرائيليين أسرى لديه. في هذه الحالة، يصعب تعويض خسارة مفخرة الاستخبارات الإسرائيلية، ونخبة نخبتها.

لم يكن هذا المكسب الاستخباراتي الذي حقّقته كتائب القسام، إلا نتيجة لمقدّمات طويلة، أقربها إلى ذلك المكسب؛ الجدّية التي تبثّ المرابطين المتيقظين في القطاع، والتعامل الحاسم مع المظاهر الغريبة، والذي يأخذ قضية الصراع مع الاحتلال على محمل الجدّ، فلا ينبغي، والحال هذه، تسرّب مظهر غريب خارج أطر الرصد والمراقبة والإحاطة الشاملة للقطاع، فكان المكسب الاستخباراتي الأول إيقاف الوحدة الخاصة، وإحباط مهمتها، أو قطع مهمتها، ثم السعي خلف كلّ الخيوط التي من الممكن أن تلك الوحدة تعلّقت بها، سواء في مهمات نفّذتها هي، أم فرق أخرى متصلة بها، أم متعاونين محلّيين اتصلت بهم، وبهذا حقّقت كتائب القسام جملة مكاسب دفعة واحدة ما تزال مفتوحة على المزيد.

حتمًا لم يكن هذا ممكنًا، لولا الإيمان بالمشروع، ثم العمل الدؤوب على تطويره، ومراكمة الخبرات والممكنات والمنجزات. خلف هذا العمل تقوم إرادة استخباراتية لتجاوز عين الاحتلال الواسعة التي تحيط بقطاع غزّة وتتخلل تفاصيله بخبرة عقود وقدرات تقنية عالية، ولتجاوز اصطفاف العالم على حصار المقاومة وقطع إمداداتها وملاحقة تلك الإمدادات في كل مكان في العالم، وبعد هذه الإرادة الاستخباراتية يمكن الحديث عن كل تفاصيل الإعداد والتصنيع والتهريب والتخطيط وأسر الجنود والاحتفاظ بهم.

أمّا البعد الرمزي فلا يقلّ أهمية، في هذه المعركة خصوصًا، وفي الصراع عمومًا، فنشر صور المطلوبين، والإعلان عنهم، واحدة من أشهر الأعمال الاستخباراتية التي كانت “إسرائيل” تقوم بها وما زالت، بيد أنّها هذه المرّة تتلقّى هي الفعل ذاته من طرف معادٍ، وهذا الطرف في موازين القوى يُفترض ألا يمتلك هذه الإمكانية. الدلالة هنا جليّة وبالغة الأهمية، فالبعد الرمزي غير منفكّ عن البعد الفعلي، بمعنى أن نشر كتائب القسام لم يكن إعلانًا استعراضيًّا طفوليًّا أو شعاراتيًّا، كأن تعلن مثلاً أن بنيامن نتنياهو مطلوب لها، وإنما هو إعلان ناجم عن كشف استخباراتيّ حقيقيّ لواحدة من أهم وحدات العمليات الخاصّة في الاستخبارات الإسرائيلية.

يمكن هنا أن نتحدث عن ثلاثة مستويات مهمّة يتضمّنها البعد الرمزي، الأول: أن الكشف نتيجة مركّبة من يقظة المرابطين ومن جهد استخباراتي تمكّن من تحليل الأحداث والصور، والثاني: إخراج الوحدة الخاصّة المشار إليها بصور عناصرها من الخدمة بعد كشف هؤلاء العناصر، والثالث: ملاحقة تبعات هذه الوحدة والخيوط المتعلقة بها، ومن الوارد وجود مستويات أخرى ما تزال مطويّة عنّا، وحينئذ فإنّ البعد الرمزي يتجاوز الجانب الاستعراضي الذي قد يتبجّح به أي أحد، وإنّما هذه معركة جدّية، ينبثق عنها بعد رمزي يشير إلى اتجاهات الصراع وتحوّلاته.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات