الثلاثاء 21/مايو/2024

المقاومة في الضفة في 2018.. في السياقات والدلالات

ساري عرابي

تتحدث التقارير عن مقتل أحد عشر إسرائيليّا حتى نهاية تشرين أول/ أكتوبر 2018؛ بفعل المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبالإضافة إلى ذلك فإن تنوعًا واسعًا في العمل المقاوم تشهده ساحة الضفة الغربية من المواجهات الشعبية المألوفة، ولاسيما حين اقتحام قوات الاحتلال للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، صعودًا بأعمال أكثر عنفًا، وصولاً للعمل العسكري الصرف.

في هذا السياق، عادت إلى الضفة الغربية صور المطاردة التي يألفها الوعي الفلسطيني، فبعد حكاية نصر جرار الذي استشهد مطلع العام 2018 بعد مطاردة وجيزة تلت عملية إطلاق نار ناجحة.. لاحق الاحتلال في تشرين أول/ أكتوبر شابًّا فلسطينيًّا من بلدة جماعين/ نابلس سبق له وأنّ نفذ عملية طعن على حاجز حوارة، وبعد اعتقال الشاب، جاءت عملية إطلاق النار التي نفذها أشرف نعالوة، والذي ما يزال مطاردًا حتى ساعة هذه الكتابة.

لا تعود هذه الحوادث إلى هذه السنة على وجه الخصوص، وإن كانت تحمل دلالات هامّة بكونها قد جاءت هذه السنة، فهي في أصلها امتداد لحالة كفاحية لم تنقطع منذ تموز/ يوليو 2014، الذي شكّل بداية فعلية لتحولات جديرة بالملاحظة في الضفة الغربية، فبعد اختطاف مجموعة من حركة حماس في مدينة الخليل في شهر حزيران/ يونيو 2014 لثلاثة مستوطنين ثم قتلهم.. أخذت الحوادث بالتصاعد في الضفة الغربية، حتى بلغت ذروتها في الهبّة التي جاءت ردًّا على حرق الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، ثم تعاظمت بعد العدوان الكبير على قطاع غزّة.

تجددت هذه الهبّة فيما عُرف بـ “هبّة القدس” والتي كانت عملية بيت فوريك (إيتمار) فاتحة لها، إلى جانب عملية الطعن التي نفذها الشاب مهند الحلبي في القدس. هذه الهبّة هي الأطول والأوسع والأكثر كثافة، في سلسلة الهبّات متجددة الانبعاث في الضفة الغربية والقدس منذ أربع سنوات، فقد شهدت هذه الهبّة مواجهات مستمرة على الحواجز ومداخل المدن، واتسمت بكثافة عالية في العمليات الفردية، لتنبعث هبّة أخرى، مقدسية، في تموز/ يوليو 2017، احتجاجًا على محاولة الاحتلال السيطرة على المسجد الأقصى متذرعًا بعملية إطلاق نار ثلاثية نُفّذت في المسجد.

هذا العرض الموجز، يوثّق اتصال حوادث هذا العام 2018 بما سبق طوال أربع سنوات ماضية، أمّا وقد انتقلت المقاومة، من الهبّات الواسعة نسبيًّا إلى العمليات المتفرقة، فهذا يقتضي التنبيه إلى خصوصية هذه المرحلة التي تختلف فيها الضفة الغربية عمّا كانت عليه في الانتفاضتين الكبيرتين.

في الانتفاضة الأولى، وُجد الاحتلال بين تجمعات الفلسطينيين السكنية، وقد سهّل ذلك من مهمّة الاشتباك الشعبي المباشر معه، وانعدام وجود سلطة سياسية خاصة بالفلسطينيين جعل من القدرة على إشراك كل شرائح المجتمع في الانتفاضة الشعبية أمرًا ميسورًا، فرفع العلم، أو حياكته، أو الكتابة على الجدران، أو توزيع المنشورات، أو الإضراب الذي كان عصيانا مدنيًّا فعالا ولاسيما في بداية الانتفاضة، ذلك كلّه كان كفيلاً بتحويل الانتفاضة من هبّة محدودة إلى انتفاضة شاملة تستوعب الفلسطينيين كلّهم.

في الانتفاضة الثانية، كان ثمّة تغيّرات جوهريّة قد تكرّست في الواقع الفلسطيني، فالآن توجد سلطة محليّة حاكمة، فلا معنى للإضراب، ولا للتظاهر داخل مراكز المدن، وهذه السلطة هي ممثل سياسي معترف به من الاحتلال فلا معنى لرفع العلم وسيلة احتجاج فعّالة، وهكذا..

بيد أن فشل مفاوضات كامب ديفد، ووجود قيادة للسلطة تملك الجرأة على المناورة في المربعات الخطرة، وبالتالي سماحها بوصول المظاهر إلى مداخل المدن وحواجز الاحتلال ونقاط الاحتكاك معه، وتوغل الاحتلال في قتل المتظاهرين السلميين على الحواجز، سريعًا ما حوّل تلك الانتفاضة إلى انتفاضة مسلحة واسعة دامت بضع سنوات، وكانت الأكثر إثخانًا في الاحتلال طوال الصراع معه، وشكّلت الضفة الغربية وقتها الساحة الرئيسة لتلك الانتفاضة.

المتغيرات الراهنة التي لا تسمح بشكل الانتفاضة الثانية متعلقة بعدّة عوامل، منها اختلاف قيادة السلطة، والانقسام الفلسطيني، وسوء الاستثمار السياسي والتشكّل السلطوي الذي تلا الانتفاضتين السابقتين، وتجريف الحركة الوطنية بما يتصل بها من منابر التعبئة وفعاليات الحشد والفعل من بعد الانقسام، واجتراح سياسات مركّبة من الاقتصاد والأمن والثقافة والسياسة، وبإرادة قصدت صرف الجماهير الفلسطينية عن القيام بواجبها التاريخي في التصدي للاحتلال، وبإغراقها بنمط استهلاكي فرداني يتصادم وذلك الواجب التاريخي.

إلا أنّ هذه الحالة، لم يكن مقدّرًا لها الاستمرار، ما دام الشعب الفلسطيني يكابد الاحتلال، والفلسطينيون في الضفة والقدس يطوون على مخزون نضالي هائل، والتحديات المتعلقة بالتغول الاستعماري في الضفة وتهويد القدس تتفاقم، في حين قد تبين أن مشروع التسوية محتوم فشله، فلا أفقًا سياسيًّا أرقى تَعِدُ به السلطة، مما يجعل مسألة وجود سلطتين دون نهاية سياسية واضحة عبئًا على الفلسطينيين في الضفة، الذين يقاسون أوضاعًا اقتصادية صعبة، بيد أنّه وفي قلب هذه العوامل، كانت حرب العام 2014 في غزّة ملهمة للأجيال الجديدة في الضفة الغربية التي تعرّفت على الخطاب الوطني من مشهدية الحرب المتلفزة، وهو ما انعكس في جملة حوادث في الضفة، من بينها الفوز المتتالي بنسب عالية للكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، ثم الهبات المتجددة، وتوابعها من عمليات فردية متفرقة.

ويمكن تشبيه أعمال المقاومة المتفرقة من بعد انحسار الهبات الأخيرة، وإن كانت احتمالات تجددها قائمة باستمرار، بالعمل المقاوم الذي توسط ما بين نهاية الانتفاضة الأولى وبداية الانتفاضة الثانية، لتشابه بعض الظروف الموضوعية ولاسيما في الظرف المتعلق بالسلطة، إلا أنّ الفارق هذه المرّة في اتساع الظاهرة الفردية، والتي لا تعني بحال انعدام العمل المنظم، فالهبات المشار إليها سبقها وتخللها أعمال مقاومة تقف خلفها تنظيمات فلسطينية (حماس تحديدًا)، وبعض الأعمال الفردية صدرت عن أصحاب تجربة تنظيمية، هذا إلى جانب أنّ الاستهداف اليومي من الاحتلال لنشطاء الفصائل بالاعتقال، وما يكشفه بين فترة وأخرى عن اعتقال خلايا فلسطينية، يبيّن الجهود التي تبذلها بعض الفصائل لاستئناف العمل المقاوم في الضفة.

بيد أنّ اتساع الظاهرة الفردية وإنّ دلّ على أزمة العمل الوطني في الضفة بسبب سياسات ما بعد الانقسام، وحجم الاستنزاف الذي فرضه الاحتلال على الفلسطينيين في الضفة من الانتفاضة الثانية وحتى الآن، فإنّه من جهة أخرى يدلّ على التململ الشعبي وتوجهاته الكامنة والضمنية نحو المقاومة، ويئسه من مسارات التسوية التي تنتهجها السلطة الفلسطينية.

فإذا كانت حوادث هذه السنة متّصلة بسياق أوسع، وهو الهبات المستمرة بأشكالها وتوابعها المتعددة منذ أربع سنوات، فإنّ لها دلالتها الخاصّة، في كون تلك الهبات لم تكن طفرات عابرة، وإنما مشبّعة بالدلالات السياسية، والتوجهات الكامنة للجماهير الفلسطينية، والتي من شأنها أن تأخذ أنماطًا أوسع في حين توفر الشروط والظروف الملائمة لذلك.

تجدر الإشارة، والحال هذه، إلى حجم التطورات التي تعاظمت على صعد مختلفة، والتي تجعل إمّا من العمل المقاوم نفسه في الضفة صعبًا، أو تُصعّب من رصده وملاحظته إعلاميًّا كما هو بحجمه الحقيقي، فالقدرات التقنية العالية للاحتلال والمبثوثة في كل أماكن الاحتكاك الممكنة تجعل من أيّ عمل مقاوم أقرب ما يكون إلى عمل من مرّة واحدة، ومشهدية الحرب الضخمة في غزّة، ومشهديات الثورات العربية المكثّفة، يجعل من المواجهات اليومية المتفرقة في القرى والمدن والمخيمات في الضفة خارج اهتمامات الرصد والملاحظة الإعلامية وهو ما يؤثّر سلبًا على الفهم الصحيح لأوضاع وظروف الضفة الغربية.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات