عاجل

الثلاثاء 21/مايو/2024

أنا من جِنين

همام يحيى

أنا من “جِنين” .. مدينة صغيرة في شمالِ الضّفّة الغربيّة، لم يكن يعرفُها كثيرون قبلَ الاجتياح الإسرائيليّ لمخيّمِها عام 2002 .. لم أغادرِ الضّفّة الغربيّة قبل دخولي الجامعة إلا مرّة واحدة ذهبتُ فيها إلى العُمرة .. ثمانية عشر عاما لم أجرّب فيها “السَّفَر” وحزمَ الحقائب إلا مرّة .. درستُ في الأردن ستّ سنوات، ركبتُ الطّائرةَ في آخرِها لأوّل مرّة في حياتي .. كان عمري أربعةً وعشرين عاما حين استخدمتُ هذا الاختراعَ البشريّ العتيد أوّلَ مرّة ..

في الولايات المتّحدة، لا أظنُّ شيئا استحوذَ عليّ كما فعلتِ الأراضي الشاسعة .. الوقتُ الذي أقضيه في السفر بين مدينتَين قريبتَين في أمريكا يكفي لقطع الضفّة الغربيّة من شمالِها إلى جنوبِها، شاملا التوقّف من أجل كنافة في نابلس ورقبة خروفٍ محشيّة في الخليل ..

حين قُدتُ السيّارة إلى الشّمال نحوَ ولاية كولورادو، رافقني جبلٌ عظيم لساعة كاملة .. كدتُ لفرط هيبتِه أبكي .. كان يُشبُه الجبالَ التي تخيّلتُ أنّ الجبّارَ سيُسيُّرُها يومَ القيامة .. حين رأيتُ جبالَ الروكيز بقممِها الثلجيّة طيلة العام، ووقفتُ على ضفّة بحيرة في ويومينغ، تخيلتُ أنّني أعيشُ في خلفيّات “سطح المكتب” التي يستخدمُها “ويندوز” .. شعرتُ أنّي عبرتُ في الزّمان من خارج أوّل كمبيوتر اقتنيتُه قبلَ عشرين عاما إلى داخلِه .. التبسَ عليّ الأمر، فلا أدري أرجوعٌ هذا في الزمن أم عبورٌ إلى المستقبَل! ..

صحراء أريزونا الشاسعة التي تمتدُّ بلا توقّف .. كانت زاويةٌ في رئتي تنفتحُ كلّما عبرتُ فيها ميلا من دون أن تبدو للطريق نهايةٌ في الأفق .. كنتُ أريدُ للصحراء أن تمتدّ بالفعل إلى ما لا نهاية .. حين أسافرُ إلى أيّ مكانٍ في أمريكا بالطّائرة، لا أشعرُ أنني سافرت .. أختارُ السّفرَ بالسيارة إذا كانتِ المسافة تُقطَع في اثنتي عشرة ساعة أو أقلّ .. رقمي القياسيّ حتّى الآن هو إحدى عشرة ساعة متواصلة من القيادة ..

أشعرُ أنّ كلَّ ميلٍ يمحو قليلا من اختناقي، ويُعوضُني عن ثمانية عشر عاما من الأفق المحصور بالدبّابات والطّائرات والحدود والأسلاك .. كلُّ دورة عجل في صحاري أمريكا هي علاجي المتأخّر من كلّ وقفة طابور على امتداد “الجسر” الفاصل بين فلسطين والأردن ..

لو كان للمرء أن يختارَ حلمَه الأخير قبلَ أن يغفو الإغفاءة الطويلة، فسيكون حلمي طريقا لا نهاية له في صحراء أريزونا، وعلى جانبَيه جبالُ كولورادو .. لا بأس بكنافة من نابلس ورقبة خروفٍ محشيّة من الخليل ..

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات