لماذا غزّة هي ضرورة للعالم؟!
تُمثّل “إسرائيل” حقيقة هذا العالم، والعَرَض الأكثر قبحًا، ولكن الأكثر دلالة على جوهره المتقيح بالظلم والجبروت وانحطاط البشرية إلى آلهة ومستضعفين، لو جرّدنا العقل الإنساني من كلّ ما تلبّسه من نتائج اختلال العالم ومظاهره الشائهة لكانت “إسرائيل”، بلا مزيد تفكير، وببداهة العقل الأولى، أضخم ما اجترحه الانحطاط البشريّ من إهانة للكرامة الآدمية والعقل الإنساني، كذبة كبرى، وخرافة مُهينة للإنسان من حيث هو إنسان، تتواطأ البشرية عليها، وتسطو بها على أرض كاملة، وعلى شعب كامل، وتسطو بها على التاريخ والحاضر والمستقبل!
تصير فلسطين في هذه الحالة بمظلوميتها، المؤشّر الأكثر وضوحًا وجلاء في بيان انحطاط البشرية، وإظهار الدرك الوضيع الذي يمكن للإنسان أن يرتكس فيه، كما تصير في الوقت نفسه القضية الفعلية، والساحة الرئيسة، لإعادة الرشد للبشرية من جديد، وانتشالها من ارتكاستها، إنّها قضية الإنسان، لا قضية الفلسطينيين والعرب والمسلمين وحدهم.
منذ أن جرى تأسيس “إسرائيل” بكذبة كبرى، وأسطورة مزرية للإنسان، وتواطأ العالم عليها، منذ ذلك الوقت، ونحن لا نحتاج إلى مزيد دلائل على فساد هذا العالم، وحاجة الإنسان من حيث هو إنسان لتأسيس جديد لهذا العالم بميزان يُدعى فلسطين.. نعم، ثمة دلائل ضخمة ومتكاثرة اليوم على فساد هذا العالم، على فساد نظامه، على حقارة سدنته وحماته، لكنّنا حقًّا لم نكن نحتاج إلى كلّ هذه الأوجاع والمآسي لتصفية حسابنا مع هذا العالم، كان علينا أن نصفّي حسابنا مع “إسرائيل” وينتهي كل شيء!
بلغة السياسة، “إسرائيل” هي ابنة النظام الدولي، وبكلمة أخرى هي المنتوج الضروري لفائض حقارة هذا العالم، فكما أنّ القوّة إذا تعاظمت فاضت، فكذلك الحقارة، إذا تضخّمت وانتفشت فاضت، ولم يكن نوع حقارة العالم وشكلها ليفيض إلا بـ”إسرائيل”، كان العالم قد ارتكس في الوضاعة وفي تعفّن الضمير وانحراف الفطرة إلى الدرجة التي لا بدّ فيها من أن يكون فائض ذلك بالغ الإغراب والشذوذ وفي الحدّ الأقصى من الشرّ والأذى، كيان يتأسّن فيه كل جميل، بقدر تَلَف الجمال في العالم أصلاً.
إذن وبحكم التضاد الذي لا بدّ منه في الوجود الإنساني، وسُنّة التدافع التي تُهذّب هذا الوجود، وكما كانت “إسرائيل” ضرورة تفيض بها حقارة العالم، كانت فلسطين ضرورة ليسترد بها العالم رشده، في واحدة من أكثر مفارقات هذا الوجود إدهاشًا ووجعًا، نحن في فلسطين ندفع ثمن فساد العالم، ثم نضطر لقتال العالم كلّه الذي أنتج “إسرائيل”، ثمّ ونحن نفعل ذلك لأجل أنفسنا، وأرضنا، وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، فإنّنا على الحقيقة نفعل ذلك لأجل هذا العالم، لأجل ضبطه من جديد، ومنحه التوازن من جديد، نحن بإزالة غلطته الأكثر إهانة للإنسان، نردّ الكرامة للإنسان نفسه!
على أيّ شيء تأسست “إسرائيل” وبأيّ حقّ؟! بمعزل عن الأسطورة التي هي محض دعارة خالصة ينتهجها العالم لتسوية سياساته الأكثر بشاعة، فإنّها في الحقيقة الابنة المدللة للنظام الدولي، ابنة المنتصرين في الحربين العالميتين، القوى التي خرجت من حروبها، بفائض لا في القوّة المتوحّشة فحسب، ولكن بفائض في اهتراء القيم الإنسانية ورداءتها، فكانت طبائع الأشياء تقضي بوجود علامة دالة على ما بلغته البشرية من انحطاط، وكانت هي “إسرائيل”.
هذا النظام الدولي، يعترف بـ”إسرائيل” عضوًا في الأمم المتحدة، دولة طبيعية في المنظومة التي تحكم العالم اليوم، مع أنّ هذه “إسرائيل” هي أبعد كائن في الوجود عن إمكان وصفه بالطبيعية، دولة هي في ذاتها رديف أكثر بلاغة لكلمات من قبيل السطو والسرقة والكذب والإجرام، وهي غير طبيعية لأنّها صنيعة محضة، لم تتأسس على سيرورة طبيعية، ولم تنبثق من حقائق التاريخ والجغرافيا، حفنة من شذّاذ الآفاق جاء بهم العالم لفيفًا إلى فلسطين وصنع منهم دولة، ثمّ أخذ هذا النظام الدولي يحمي هذه الدولة الصنيعة، والحفنة اللقيطة، ضرورة لتعريف ذاته، وعلامة على طبيعته، إنّها عَلمُ العالم الظالم، نشيده الشيطاني، وفي هذه المنظومة الدولية تصطف دول كثيرة تقبل بـ”إسرائيل”، تُطبّع معها، تسعى للتطبيع معها، لا تفكّر أصلاً بإزالتها، لأنّ ذلك الكلّ لَبِنات في بناء النظام الدولي الظالم.
لكن نحن أيضًا في فلسطين أصابنا شيء من فساد ذلك العالم، وبدلاً من سعينا للتحرير، تحرير أنفسنا لا تحرير بلادنا فحسب، وتحرير العالم من خَلْفنا أيضًا، صرنا نسعى لأن نكون جزءًا من هذا العالم، من منظومته الدولية، والإقليمية التي تتبعها، وحقًّا لنا أن نتخيل كيف أن حركة تحرير وطنيّ تصير حزب سلطة هي جزء من هذا النظام، بإرادته وقوانيه ورقابته، وتسعى لترسيخ نفسها في هذا النظام، وكيف انعكس ذلك على ساحة الصراع الرئيسة، بحسب الإيديولوجيا الاستعمارية الصهيونية، والتي هي في إستراتيجيا المواجهة مع العدو عمقه الإستراتيجي، أعني الضفة الغربية التي تحوي القدس والمسجد الأقصى!
غزّة وحدها، ومنذ انتفاضة الأقصى، لم تلقِ السلاح، تقف على قدميها، مثخنة، جريحة، مخذولة، محاصرة، متآمَرًا عليها، لتعديل الميزان الفلسطيني أولاً، ثم كي تبقى فلسطين ضرورة الرشد لهذا العالم، بوابة التأسيس الجديد لهذا العالم، غزّة ضرورة بمجرد وقوفها على قدميها، ضرورة لفلسطين، وللعالم، كشأن طلائع الخير في كل زمن، كشأن الأنبياء، كشأن الشهداء، يشربون المرارة، لكنّهم يظلّون واقفين على أقدامهم، لا يتغيّرون، وفي هذه اللحظة من الزمن؛ كانت غزّة هي الضرورة، وبقية طلائع الخير، ونسمة النبوّة في بلادنا، ومثال الشهادة العالي، تتجرع المرارة في كل لحظة ولكنها لا تنحني، ولا تتطبع مع العالم وظلمه وجبروته وحقارته..
إنّها لا تستغرب أنّ العالم كلّه، كلّه، يقف ضدّها، يحاصرها، يعدّ للبطش بها، لأنها تعلم أنّها توجعه باختلافها، وتمرّدها على قبحه، وقيامها ميزان رشد وهو السادر في الغيّ والضلال، وأنها بصمودها في وجه صنيعته إنما تفعل فعلها في تفكيكه، وتحفظ مفاتيح تأسيس عالم بديل عنه، وهي رغم جراحاتها ومراراتها، تبدع في تطوير دورها، واستنبات الفعل من الصحراء، بدم الشهادة.. 15 شهيدًا في يوم الأرض، في يوم مسيرة العودة الكبرى، تؤشّر غزّة بهم على مركّب العالم، وخلاصته “إسرائيل”، مركّب فيه الجبروت، نعم، ولكنّه هشّ أيضًا.. لأنّ الحقّ في كلّ حال قويّ، وقوّته في ذاته، وهو اليوم يُعبّر عن نفسه بغزّة.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
حماس: تقييد عمل أسوشيتد برس سلوكٌ فاشيٌ ليحجب الاحتلال جرائمه عن العالم
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام أكدت حركة المقاومة الإسلامية حماس أن مصادرة سلطات الاحتلال الصهيوني اليوم لمعدات البث الخاصة بوكالة أسوشيتد برس هو...
الاحتلال يواصل خنق الحقيقة.. إيقاف بث أسوشيتد برس ومصادرة معداتها
القدس – المركز الفلسطيني للإعلام صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كاميرا ومعدات بث تابعة لوكالة أسوشيتد برس، اليوم الثلاثاء، بزعم انتهاك قانون جديد...
الإعلام الحكومي بغزة: الشمال يعاني المجاعة وتسهيلات الاحتلال وهمية مخادعة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام حذر المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، مما وصفه محاولات الاحتلال بالالتفاف على مطالب المنظمات والهيئات الدولية...
الاحتلال يعتقل وفاء جرار في جنين بعد اقتحام منزلها وتكسيره
جنين – المركز الفلسطيني للإعلام اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الثلاثاء، المرشحة عن انتخابات المجلس التشريعي وفاء جرار (٤٨عاماً) بعد...
صحة غزة تطالب بوقف العدوان على القطاع الصحي
رام الله- المركز الفلسطيني للإعلام طالبت وزارة الصحة الفلسطينية، مساء اليوم الثلاثاء، المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية الدولية وكافة المنظمات...
قذارة العدوان تفاقم أزمة النفايات وتهدد حياة النازحين بغزة
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام مع تواصل العدوان الصهيوني على غزة منذ ثمانية أشهر وما تسبب به من دمارٍ واسعٍ للبنية التحتية ولجميع الجهات المختصة في...
الغزيون يفرون من نار الحرب والحر إلى البحر رغم أنف المحتل
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام مئات الآلاف من الفلسطينيين يتكدسون في بقعة جغرافية ضيقة بفعل سياسة التهجير القسري التي تتبعها قوات الاحتلال...