الثلاثاء 21/مايو/2024

إلى شهداء تشرين العظام

ساري عرابي

ما كانت فلسطين ترتدي الخريف في تشرين، وإنما ترتدي الشتاء المبكّر، وترتوي بالحياة، وكما أنّ الذاكرة الفلسطينية مسكونة بالاجتماع الشتويّ الحميم حول (الكانون) والمطر يحتويها بودّ عاصف، فإنّها مسكونة بذاكرة تشرينية، هي الأكثر ودًّا وألفة وحميمية، إنّها ذاكرة الشهداء، منذ مطلع قضيتها، وحتى ساعتها هذه..

تشرين، أجمل الأشياء، هي تلك التي تمنحك شعورًا لذيذًا من الارتباك، كالدفء المختلط بالبرد، والشمس المبتهجة بانتظار السحاب، أوّل الأشياء في حذر تُبشّر باليقين في أواخرها، الألم المجبول بالفرح، والأماني تعاند المعجزات، والأحلام التي لا تذروها عواصف مطلع الشتاء، والرغبات لا يُقعدها دفء المجلس المرتجف بردًا!

تشرين.. رجل واحد، تجدّد في كلّ عصر، بندقية واحدة تنقّلت على أكتاف الرجال، الرجل يلملم نفسه على الأرض العربية، وينثرها أفقًا من رجال، وينصبها حارسًا على أحلامنا، على أبواب بيوتنا الخشبية العتيقة، على جذرنا، وعلى ساقنا، وعلى فرعنا، لا يرتحل، فإن غيّر موقعه استحال شمسًا في سمائنا، لا تسرق من الغيم بهجته، ولا من المطر لهفته، ولكنها تمنح تشرين مزيدًا من الارتباك اللذيذ، هل شعرت مرّة في لحظة واحدة، بالدفء والبرد؟ ذلك تشرين، وذاك رجلنا.

تشرين.. ما وضع الرجل عصاه، عصا موسى في يد نبيّ الثورة، عصى الرجال من الأقاصي يجدّون السعي إلى فلسطين، يحملون أكفّهم إلينا، راحة من أرضنا، وفي عيونهم لوزنا، وفي تضاعيفهم حربهم لأجلنا، ورحلتهم الدامية الحانية، وجراحهم المحبّة المعاتبة، على جراح أكفهم نضع رؤوسنا، وفيها نكبر، ويكبر فينا ارتباك تشرين.

تشرين.. بندقيتهم إلينا وردة، ورصاصهم إلينا بيدرًا من قمح، وقنابلهم أغانينا، وأيامهم لنا، يوزعونها بالعدل؛ على جبالنا وصحارينا، كمائن وحروبًا، ثم يمنحوننا بهجة الحكاية، ووفرة القصّة ساعة السمر، واشتعال الجمر في عيوننا الملتفّة حول (الكانون)، وأيامهم لصدورنا وطنًا، وعلى الباب الخشبي، للبيت العتيق، يتركون لنا حصانًا يصهل يُبشّر بالفرسان الذين لا ينفدون!

تشرين.. كف تقبض على الوطن، تخبئه في جراحاتها العميقة، تسوّره بتقرّحاتها الزاكية، وتزيّنه بحرائقها الخضراء، فإذا انبسطت كي تقبض بندقية، لا تسقط منها حكاية من حكايانا، ولا حقلاً من حقولنا، ولا سور عكّا، ولا سور القدس، ولا مئذنة واحدة، ولا النهر، ولا البحر، ولا الجبال التي لا تشيح عنّا، ولا رصاصة واحدة، لا شيء يسقط من الكفّ المقبوضة إن انبسطت، انقباضها وانبساطها سواء، تضيف إلى ما تخبئه في جراحها بندقية وجهها إلى العدوّ.

تشرين.. صدر مشرع للحروب، صدر هو درعنا، وجه منبسط للكمائن، وجه هو قمرنا، يد تنغمس في المعركة، هي نحن ننغمس في البلاد، صوت يصيح للقتال، أرحب من البلاد، ساق تتأهب للاشتباك، زيتونتنا المعمّرة تهدهد الجبال، أصابع تقطف الرؤوس، وتقطف لنا الأهازيج، عيون تشتعل بالنّار، وتشعل لنا (الكانون).

تشرين.. دربنا، قافلة الرجال، رحلة النخيل، مسيرة المآذن، موكب النّجوم المتلفّحة بالغيوم.. يحتشدون، كالنجوم التي تستضيء بهم، تسير في إثرهم، وردة خلف وردة، سنبلة خلف سنبلة، رجلاً خلف رجل، سَنة خلف سَنة، عقدًا خلف عقد، كسلاسل المطر، كموج القمح، كدفق النهر، كمد البحر، جيلاً وراء جيل، رجلاً من رجل.

تشرين.. حزننا دمهم، ودمهم أمانينا، من صدورهم يطلع الرجال، وفي دمهم تَبزُغ القرى، فإذا ارتدوا الاختفاء المهيب انبعث الهوى عطرًا للبلاد، حبًّا نعيش به، فإذا خبئوا رصاصهم؛ خبئوا حلمنا، فإذا أطلقوها؛ أطلقوا لهفتنا، يتنفسون البحر قبل كلّ اشتباك، فإذا ركضوا في الاشتباك تحزّموا بالنهر.

تشرين.. مَنْ طعنته المنافي منهم طعنتها الغادرة، امتدّ أفقًا إلى فيض الأماني، إلى فلسطين، بندقية إليها، أو رجلاً منه إليها، ارتحل إليها عزّ الدين القسّام، وأرسل الرجال إليها عبد الله عزّام، وعاد إليها إبراهيم بني عودة، يرتوون منها الحلم، ويقرّبون إليها غبار الطريق على أكتافهم.

تشرين.. القرى المنثورة، والمخيمات المترعة بالحكاية، والمدن العتيقة، فإذا استبدّ بها الحزن، خرجوا منه، يرتدونه غضبًا، ويعيدونه إلينا حُلمًا، وعهدًا على البقاء، لا يرتحلون، فإذا عدّ أزقتنا أحدهم، أحصاها وحفظها، وترك على كل نافذة فيها وردة من دمه، وقبلة على جدرانها من دمعه، ثم صعد يعدّها من السماء، تلاه آخر، كل واحد هو الذي قبله، كل واحد هو الذي بعده.

تشرين.. إذا حاصرنا اليأس، شقّه رجل واحد، يصير بضعة رجال، شقّه عماد عقل، رجلاً كاملاً يمنح الأرض الرجال، وشقّه محمود أبو هنود، رجلاً وحيدًا، يحفظ حجارة الجبال، زيتونها وبلّوطها وشوكها، وفي دوربها الوعرة يطرّي خبزه اليابس، فإذا خاض فيها معركته المحفوفة بالصمت والخذلان، نبتت من آثاره حقول الرجال، وشقّه أحمد الجعبري، ترك خلفه حربًا، وكتائب من الرجال.

تشرين.. عز الدين القسام، عبد الله عزام، عماد عقل، إبراهيم بني عودة، محمود أبو هنود، أحمد الجعبري.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات