الجمعة 26/أبريل/2024

تهويد القدس بين التواطؤ الدولي والتقصير العربي

تهويد القدس بين التواطؤ الدولي والتقصير العربي

 

أصدر ائتلاف المؤسسات الأهلية للدفاع عن حقوق المقدسيين بالتعاون مع مركز القدس للديمقراطية وحقوق الإنسان مؤخراً تقريراً عن الانتهاكات الإسرائيلية الخطيرة لحقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي، بمواصلة الممارسات العنصرية وعملية التطهير العرقي ضد المواطنين العرب بالقدس، وكانت أسبوعية الحقيقة الدولية الأردنية قد نشرت في 30/8/2006 دراسة لنواف الزرو، الكاتب المختص في الصراع العربي – الصهيوني، جاء فيها أن رئيس بلدية القدس أوري لوبوسكي كشف النقاب عن خمسين مخططاً هيكلياً في طور الإنجاز خلال عامين لتغيير جغرافية القدس الشرقية، ولمضاعفة الاستيطان فيها، لطمس هويتها العربية وتأكيد تكريس القدس الكبرى عاصمة أبدية ل”إسرائيل”. ومن جملة ما هو مخطط له تحويل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة إلى متحفين. فيما يجري استكمال بناء جدار الفصل العنصري في منطقة القدس لإحكام عزلها عن بقية الضفة الغربية المحتلة.

والتخطيط للاستيلاء على القدس وتهويدها قديم قدم التفكير بإقامة المشروع الصهيوني، إذ احتلت القدس موقعاً متميزاً في الفكر والعمل الاستعماريين لإقامته. ففي سنة 1838 أقامت بريطانيا أول قنصلية لها بالقدس، وجعلت في مقدمة مهام نائب القنصل حماية اليهود باعتبار ذلك من مهام الدولة. وقد حصلت على امتياز حماية يهود الإمبراطورية العثمانية لقاء دورها في حماية العرش العثماني من طموحات محمد علي. وتحت ضغط المداخلات البريطانية المكثفة أصدر السلطان عبدالمجيد سنة 1849 فرماناً بإجازة امتلاك اليهود الأراضي في فلسطين وإقامتهم بالقدس، التي كانوا ممنوعين منها منذ سنة 70 م. وذلك ما استغله كل من الكولونيل تشارلز هنري تشرتشل – جد ونستون تشرتشل – والمليونير اليهودي البريطاني موسي مونتفيوري في دعوتهما اليهود للهجرة إلى فلسطين واستيطانها. وقد أقام مونتفيوري سنة 1854 أول مستوطنة بالقدس في الموقع الذي بات يحمل اسمه. وألاحظ أن هذا النشاط الاستعماري تزامن مع حرب القرم التي تسببت بتدفق يهود وسط أوروبا نحو الغرب. وطوال زمن الانتداب اعتبرت الإدارة البريطانية والوكالة اليهودية القدس عاصمة الوطن القومي اليهودي الجاري إنشاؤه، إذ ضمت مكاتب المؤسسات والإدارات الصهيونية كافة، وأقيمت فيها الجامعة العبرية سنة 1925، وكثف الاستيطان فيها لدرجة أنه عند نهاية الانتداب سنة 1948 قارب عدد مستوطنيها الصهاينة عدد مواطنيها العرب.

وبالمقابل ندر أن تجاوز الاهتمام العربي، الرسمي والشعبي، بالقدس الانشداد العاطفي لأولى القبلتين وثالث الحرمين. إذ لم تلق الدعم العملي الذي يرقى لمستوى قدسيتها وأهميتها الاستراتيجية ومكانتها التاريخية، أو يوفر الحد الأدنى من القوة لمواجهة ما بات يتهددها نتيجة تعاظم القدرات الصهيونية. ويذكر بهجت أبو غربية أنه حتى صدور قرار التقسيم لم يكن قد وصل القدس أي قطعة سلاح من أي مصدر رسمي أو شعبي عربي. فيما كان لدى الصهاينة جيش من ستين ألفاً، كما ورد في تقرير المندوب السامي البريطاني إثر تفجير الأرغون لفندق الملك داود بالقدس في 26/7/1946 .

ومع أن القدس وضواحيها اعتبرت بقرار التقسيم منطقة دولية إلا أن الصهاينة بادروا غداة صدوره بالهجوم على الأحياء العربية العزلاء من أي سلاح. والشواهد كثيرة على التواطؤ البريطاني مع الهجمات الصهيونية، في حين لم تلق عناصر الجهاد المقدس حديث التشكل دعماً يذكر من اللجنة العسكرية التي عهدت إليها الجامعة العربية بإدارة الصراع. والثابت أن اللجنة لم تول القدس الحد الأدنى من الاهتمام الذي تستحقه بحكم موقعها الاستراتيجي، وليس فقط أهميتها القومية وقدسيتها عند العرب مسلمين ومسيحيين. وبرغم بسالة وتضحيات العدد المحدود من المقاومين احتل الصهاينة معظم حياء القدس الغربية، بحيث بلغت الأملاك العربية 70% من القدس الغربية التي احتلت سنة 1948.

وفضلاً عن التواطؤ مع الصهاينة لم تتعاون حكومة الانتداب مع لجنة التقسيم التي شكلتها الأمم المتحدة لتنفيذه. فلا هي سمحت للجنة دخول فلسطين قبل أول أيار (مايو) 1948، ولا أذنت لبعض موظفي اللجنة بالدخول لإجراء الاتصالات الأولية. كما رفضت الحكومة البريطانية تولي قواتها تنفيذ القرار برغم قدرتها على ذلك، خلافاً لما فعلت تجاه قرار تقسيم القارة الهندية بين الهند وباكستان سنة 1947. وبذلك كله تكون بريطانيا قد أسهمت عملياً في تمكين الصهاينة من السيطرة على الجزء الأعظم من منطقة القدس المعتبرة دولية بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وقبلت “إسرائيل” عضواً في الأمم المتحدة برغم تجاوزها حدود التقسيم وعدوانها على منطقة القدس المعتبرة دولية، وفي ذلك قبول ضمني بالتجاوزات الصهيونية. ويذكر أنه في سنة 1960 حالت الإدارة الأمريكية دون محاولة الأردن اتخاذ القدس عاصمة ثانية بنقل مكاتب بعض الوزارات إليها، وذلك بحجة كون القدس دولية. ولكن الإدارة الأمريكية لم تعترض على إجراءات التهويد الجارية فصولها منذ خريف 1947.

وفي أعقاب عدوان 1967 ضمت “إسرائيل” القدس الشرقية وأجازت الاستيطان فيها، كما وسعت منطقة القدس الكبرى بضم نحو 27% من الضفة الغربية، ضاربة عرض الحائط باتفاقيات جنيف للعام 1949 التي لا تجيز تغيير معالم الأرض المحتلة، كما بقرار مجلس الأمن رقم 242 بالانسحاب لحدود الرابع من حزيران / يونيو 1967. ولم تتخذ الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا مجلس الأمن أي إجراء عقابي يلزم “إسرائيل” بالالتزام بالقرارات الدولية. وكل ما صدر بهذا الخصوص قرار مجلس الأمن رقم 452 الصادر في 20/7/1979 باعتبار المستوطنات غير قانونية وتشكل خرقاً لاتفاقية جنيف، والذي أعاد التذكير بقرار الجمعية العامة باعتبار منطقة القدس دولية.

وألاحظ أن ضم القدس الشرقية وتوسيع منطقة القدس الكبرى اقتصرا على الأرض دون مواطنيها أصحاب الوجود الطبيعي والتاريخي فيها. وبسقوط السيادة العربية افتقد مواطنو القدس العرب صفتهم كمواطنين، وغدوا مجرد مقيمين أجانب في مدينة آبائهم وأجدادهم، علاوة على اخضاعم لجملة إجراءات وأحكام عنصرية متعسفة. كما أنهم تعرضوا لعمليات إفساد مبرمجة استهدفت بشكل خاص أجيالهم الشابة. الأمر الذي تسبب بتدني فعاليتهم كبشر وتراجع إرادة المقاومة عند القسط الأعظم منهم، بحيث غاب الحراك الوطني والفعل المقاوم، أو كادا، في المدينة التي شكلت إبان سنوات الاحتلال الأولى بؤرة المقاومة.

وبقبول فريق أوسلو إرجاء القدس لمفاوضات المرحلة النهائية أعطت منظمة التحرير الفلسطينية الانطباع بتدني أهمية القدس لديها. ومما ضاعف الآثار السلبية لهذا الانطباع لدى صناع القرار الصهيوني ورعاتهم على جانبي الأطلسي، كما في أوساط عرب التسوية، ما ورد في وثيقة محمود عباس ـ يوسي بيلين حول توسيع منطقة القدس لتشمل قرية أبو ديس، لتصبح القدس العربية مع إعطائها ممرات للمسجد الأقصى وبقية المواقع الدينية.

وبمقدار ما تدل إجراءات التهويد والتطهير العرقي المتوالية، وتلك المخطط لها، على استهانة بقرارات الشرعية الدولية وتواطؤ صناع قرار المجتمع الدولي مع التجاوزات الصهيونية لحقوق الإنسان والقوانين والقرارات الدولية، بقدر ما يدل ذلك على شعور التحالف الأمريكي – الصهيوني بافتقاد العرب، أنظمة وشعوباً، المنعة والقدرة على الدفاع عن حقوقهم المشروعة. وهذا هو التحدي الاستراتيجي والتاريخي الذي يواجه العرب مسلمين ومسيحيين، تجاه ما يتهدد القدس عروس عروبتهم.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات