الجمعة 26/أبريل/2024

القدس .. المكان والقيمة .. عنوان الصراع ورافعته أيضاً

القدس .. المكان والقيمة .. عنوان الصراع ورافعته أيضاً

لم يكن من باب الصدفة أن جزءاً مهماً من أسباب تعطل عملية التسوية الحالية كان تواصل وتصاعد الإجراءات الإسرائيلية في القدس، من ضم وتهويد ومحاصرة ومحاربة الوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة. الأزمة الأولى في عملية التسوية في عهد حكومة نتنياهو تمثلت بفتح السلطات الإسرائيلية نفقاً تحت أساسات المسجد الأقصى في أيلول/ سبتمبر من العام 1996، ثم جاء قرار الاستيطان في أبو غنيم الذي كان سبباً مباشراً في توقف عملية التسوية منذ آذار/ مارس العام الماضي، وجاء القرار الإسرائيلي الأخير بتوسيع الحدود البلدية لمدينة القدس إلى ما يوازي أضعاف مساحتها الحالية ليعمق من الأزمة الناشئة حول الخلاف على نسبة إعادة الانتشار في الضفة الغربية .

والنظرة الفاحصة لعوامل الصراع العربي _ الإسرائيلي تؤكد أنها أبعد وأعمق من مجرد السعي للسيطرة على القدس، بل أبعد من القضية الفلسطينية نفسها، إذ أن مظاهر العدوان ومحاولات الهيمنة الإسرائيلية لا تقتصر على الإطار الجغرافي الفلسطيني، وإن اتخذت منه نقطة ارتكاز وانطلاق، مثل المحاولات الإسرائيلية المستمرة لإضعاف ومحاصرة بعض الدول العربية اقتصادياً وسياسياً، وعلى الصعيد الفلسطيني تحديداً، فإن عنوان الصراع والخلاف هو أحقية هذا الشعب في أرضه ووطنه وأن تكون له سيادة واستقلال عليها، والقدس ليست إلا جزءاً من هذه الأرض .

ومع الإقرار بالحقيقة السابقة، إلا أن الملاحظ أن قيمة القدس وأهميتها في الإطار العربي والإسلامي بقيت على حالها على خلاف قيمة بقية الأراضي الفلسطينية في ظل وجود قناعات ليست في الإطار الرسمي فقط، ولكن أيضاً في الإطار الشعبي تقبل بجزء من الأرض الفلسطينية (1967) أو حتى بجزء من هذه الأخيرة، بعد عقود طويلة من الصراع أوجدت حالة من اليأس من إمكانية استعادة كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذه الحال تكاد تكون مشابهة لدى الطرف الإسرائيلي وإن اختلفت الصورة بين صاحب الحق والمعتدي. بل إن هذا الأخيرة متقدم في تصوراته ومواقفه بالنسبة إلى القدس على صاحب الحق، إذ أن هناك إجماعاً من أقصى يمينه إلى أقصى يساره على اعتبار القدس عاصمة أبدية وموحدة للدولة العبرية، فيما ينقسم الطرف العربي إلى قسمين رئيسين، شعبي لا يفرق بين قدس شرقية أو غربية ويطالب بالقدس كاملة، ورسمي يطالب بالجزء الشرقي من المدينة المحتلة عام 1967 توافقاً مع قرارات الشرعية الدولية .

لذلك اكتسبت القدس أهمية جديدة في ظل اتفاقات التسوية، واستمرت في إذكاء عوامل الصراع والخلاف بين الطرفين الإسرائيلي والعربي، بعد أن استعصت على بدائل الحل الإسرائيلي التي لا تقبل بأكثر من قدس موهومة جديدة للفلسطينيين في العيزرية وأبو ديس القريبتين، وشأنها، شأن القضية الفلسطينية، فإن مشكلة القدس تبدو مستعصية على الحل، على الرغم من محاولات اتفاق أوسلو تفكيك عناصر الصراع وتجزئتها، حيث أسفرت محاولات حزب العمل لإيجاد حلول تحافظ على وضعها الحالي مع إرضاء الفلسطينيين بـ”قدس جديدة” وإعطائهم مجالاً لإدراج الأماكن المقدسة فيها ورفع العلم الفلسطيني عليها، إلى خلخلة الوضع الشعبي لهذا الحزب، ما أدى إلى سقوطه بعد فشله أيضاً على الصعيد الأمني وهذا يؤكد أن الطرف الإسرائيلي لا يبدي أي ليونة تجاه هذا الموضوع، ولا يتجاوب مع التنازل العربي بالمطالبة بالشطر الشرقي من المدينة فقط، كما أن الوضع الذي آلت إليه عملية التسوية، يهيئ الأجواء أكثر لتفاعل شعبي عربي وإسلامي ضد الخطوات الاستفزازية الإسرائيلية، ويزيد من إضعاف الموقف الرسمي العربي العاجز عن وضع حد لهذه الخطوات والمستمر في التمسك بتسوية تتيح للطرف الإسرائيلي الاستمرار في هذه الاستفزازات من دون حسيب ولا رقيب .

ويبدو أن استعصاء مشكلة القدس غير مرتبط بنوعية الحكومة الإسرائيلية، إذ أن الاستيطان الإسرائيلي فيها سيستمر، خصوصاً وأن مخططات الاستيطان في أبو غنيم وتوسيع الحدود البلدية للمدينة لم تواجه معارضة من حزب العمل الذي اكتفى بنقد توقيت الإعلان عن هذه المخططات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الموقف من السيادة الإسرائيلية التامة عليها، ولذلك سيبقى الصراع في القدس مستمراً وسيزيد من سخونة الخلافات بين الطرفين العربي والإسلامي حول القضايا الأخرى في المرحلتين الانتقالية والنهائية .

الخلاف على القدس سيكون أحد المعالم المهمة في أزمة عملية التسوية، وستكون القدس الرافعة الأساسية لمواقف العرب تجاه إسرائيل ومشروعها التوسعي، وطالما أنه لا يوجد أي أمل بتراجع الموقف الإسرائيلي، فإن على الطرف العربي أن يعيد صياغة استراتيجية مواقفه من القدس، ويرفع من مطالبه باتجاه التمسك بالقدس الموحدة عاصمة للدولة الفلسطينية، وعدم القبول بتجزئتها وتفتيتها، خصوصاً أن اتفاق أوسلو الذي استند إليه العرب لتحصيل الشطر الشرقي من المدينة لم يعد موجوداً على أرض الواقع، وأن الطرف الإسرائيلي لن يغير موقفه تحت أي ضغط دولي باتجاه القول بهذا المطلب العربي المتواضع .

الحياة اللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات