السبت 04/مايو/2024

كيف نقرأ الإعلام الغربي في زمن الحرب على غزة؟

د. خالد حاجي

أمام ما تشهدُه غزّة من قتل وتشريد وإبادة للشّعب الفلسطينيّ- المطالِب بحقوقه المشروعة- من طرفِ الجيش الإسرائيليّ المحتلّ، تستبدّ الحَيرة والدهشة بكل ذي عقلٍ سليم، كما تسيطر مشاعرُ الحزن والقلق على كلّ ذي ضمير حيّ.

فإذا كان مقبولًا أن يختلفَ الناس حول عدالة القضية الفلسطينيّة، فيناقشون قرارات الأمم المتحدة مثلًا، تماهيًا مع الطرح الإسرائيلي الداعي إلى حقّ الدفاع عن النفس، أو الطرح الفلسطينيّ الداعي إلى الحقّ في المقاومة؛ فإنّه من غير المقبول أن يقع الاختلافُ حول فظاعة ما يحصل أمام أعيننا من تدمير لمقوّمات وجود الإنسان الفلسطيني، وأن يسمح العالم بهذا الدمار، وتمتنع القوى المُتحكّمة، في مصير البشريّة، عن الدعوة إلى إيقافه.

إنَّ ما يحصل في غزّة يؤشّر على أنّنا نستفتح عهدًا تاريخيًا جديدًا. فصور الآلاف من الشهداء من المدنيين العزّل، خصوصًا الأطفال، تغيّر تصوراتنا عن ذواتنا ومستقبل علاقتنا بالآخرين. كنّا، قبل اليوم، نحسب أنَّ البشرية قد قطعت أشواطًا في تفكيك السرديات العِرقية والبلاغة العقدية التي تبيح إبادة الشعوب الأخرى. كما كنّا نعتقد أن العالم يتّجه نحوَ إقرار نظام يحتكم إلى مواثيقَ دولية، ومؤسّسات أممية تكبح الدول المُتغطرسة وتلجم الكيانات المعتدية. غير أنّنا اليوم، أمام أحداث غزّة، نقفُ على إفلاس النظام العالميّ، وعجزه عن إحقاق الحقّ وإحلال السلام.

إنّ التدميرَ الذي يطال غزّة هو- في الحقيقة- تدميرٌ لأشياء بدواخلنا، تدميرٌ للثقة التي وضعناها في المجتمعات المسماة متحضّرة أو متقدّمة، تهشيمٌ للصورة التي ثَبتَت في مخيلتنا عن منظومة كنا نحسَبُها تقوم على حقوق الإنسان. لم تَعْظُم مصيبة علينا مثل مصيبة غزّة، التي جعلتنا نستيقظ على دوي سقوط النموذج الحضاري والثقافي الغربيّ. ليس من المبالغة القول إنّ الغرب، مع مواقفه مما يحصل في غزة، لن يعود- كما كان- يرسم للكثير من العرب والمُسلمين أفقَهم الفكريّ والأخلاقيّ. وكأنّنا بلسان حال أميركا وأوروبا يقول ما قالَه هانتغتون قبل عقدَين من الزّمن: “إنّ القيم التي نبشّر بها قيمٌ مخصوصة بنا، لا بغيرنا، قيم تنسحب أفضالُها علينا، لا على غيرنا”.

إنَّ ما يحصل في غزة يؤكد لنا بالملموس أنّ سعي الغرب لفرض نمطه الحضاريّ لا يدخل في إطار حرصه على إعلاء قيم أخلاقية؛ تعميمًا للمصلحة أو جلبًا للمنفعة؛ بل إنّ المصلحة عنده لازمة، غير متعدّية. ذلك ما يتجلّى لنا اليوم على مستوى التكنولوجيا في المقام الأوَّل. فالوسيلةُ التكنولوجيةُ- في يد القوى الغربيّة المهيمنة- ليست وسيلةً محايدةً، تنقل حقيقةَ ما يقعُ؛ بل صارت مجرّد خوارزميات يتمُّ بواسطتها التحكم في صناعة الواقع والترويج لصورةٍ من صوره. فلعلّ الدرس الأول المستفاد من حرب غزة، هو أنَّ التكنولوجيا ليست مجرد أدوات نستعملها لنقل الواقع؛ بل هي على الحقيقة أداة في خدمة منظومة أخلاقيَّة تبيح “حجب المحتوى” الذي لا يتناسبُ مع الواقع كما يُرادُ له أن يكون، لا كما هو في حدّ ذاته.

هذا فيما هو مرتبطٌ بمؤسّسات التكنولوجيا الغربية اليوم، وعَلاقتها بصناعة الواقع وتشكيل الوعي به داخل عوالم التواصل الاجتماعيّ. أمّا الإعلام التقليدي- الذي يعتبر جهازًا من أجهزة الدول الأيديولوجيّة- فقد أثبتت الحرب على غزة، بما لا يدع مجالًا للشكّ، أنَّ دوره صار مقصورًا على تأطير الوعي، وقوفًا عند أسئلة معيّنة تحدّد وجهة للأجوبة. لقد صارت القنوات التلفزيونية الأوروبية والأميركية توظف مهنيّتها العالية بغرض التعتيم على الخبر الذي لا يخدم السردية الرسمية المبرِّرة لمنطق الهجوم العسكري الإسرائيلي الذي لا يقفُ عند حدّ.

تتداول منصات التواصل الاجتماعيّ من بين ما تتداوله مشهدًا لامرأة بريطانية تُوبِّخ ابنتها لتنهاها عن الكذب، وهي تقول: “إذا لم تتجنَّبي الكذب وأنت صغيرة، فإنك حين تكبرين ستصيرين مذيعةً من مذيعات البي بي سي”. يعكس هذا المشهدُ وعيًا متناميًا بانخراط القنوات الأكثر مهنية في الدول الغربية في مسلسل تزييف الحقائق ومجانبة الصّواب؛ غسلًا للأدمغة. صحيح أنَّ لهذه القنوات باعًا طويلًا في نقل الأخبار، وأنها تتمتّع بمصداقيّة كبيرة حين يتعلّق الأمر بالاستقصاء؛ طلبًا لكشف الحقائق؛ لكنّه لا يقلّ صحة أنّها لا تقلّ براعة حين يتعلّق الأمر بإخفاء الحقائق كذلك، هذا الإخفاء الذي يمثل وجهًا من أكثر وجوه الكذب بشاعةً.

ليتَ ضرر الإعلام الرسمي الغربي يقف عند حدّ التعتيم على ما يجري في غزة من أحداث، لا يقبلها الضمير الإنساني؛ بل إنّ هذا الإعلام صار الراعي الرسمي لما يقعُ من انزلاق بلاغي خطير تُمحَى معه الخطوطُ الفاصلة بين الإرهاب والمقاومة، ومعاداة السامية والإسلام والمُسلمين. لقد ساهمت أحداث غزة في حلّ عقدة ألسنة لا ينهاها الحياء عن اعتماد بلاغة استعمارية إمبريالية، كنا نظنّ أنَّ البشرية قطعت شوطًا في الابتعاد عنها. ما معنى أن يتجرأ “فريدريش ميرتس” رئيس الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني ليصرِّح بالتّالي: “إذا كان هناك لاجئون من قطاع غزة، فهذا أمر يخصّ دول الجوار. أمّا ألمانيا فهي غير معنية بذلك، ولا تستطيع استيعاب مزيدٍ من اللاجئين؛ ذلك أن لدينا ما يكفي من الشباب المُعادي للسامية”.

لقد ساهمَ الإعلام الغربيّ، بانزلاقاته البلاغية الخطيرة، في التمكين لخطاب متطرف تملؤُه الكراهية والخلط والتعميم. وإلا فما الذي يُجرّئ سياسيًا، محسوبًا على العمل السياسي المعتدل، على التلفظ بما تلفظ به من عبارات لا تقف عند حدّ تصوير الشعب الفلسطيني وكأنه وحدة متجانسة لا يجمعها سوى معاداة السامية، بل تتعدّى ذلك إلى الهمز واللمز بالدول المجاورة، بوصفها المكان المناسب لاستقبال هذا الصنف من الشعوب، ثمَّ الإشارة إلى وجود فئة عريضة من المواطنين داخل ألمانيا- “ما يكفي”- ممن يحسبون على معاداة السامية.

هذا غيض من فيض من ضروب التجاوزات البلاغية التي أصبحت تطبع الخطاب السياسي المهيمن، وهي تؤشر على أوقات عصيبة تنتظر المسلمين عمومًا في السياق الغربيّ، وكأننا بقوى خفية تستدرجنا نحو حرب حضارية، طرفاها الغرب من جهة، والإسلام من جهة أخرى. إن أخطر ما يمكن أن يقع قد وقع، ألا وهو التمكين لبلاغة تصور بأن الصراع الدائر بين إسرائيل والفلسطينيين هو صراع بين الحضارة والتوحّش، بين قوى الديموقراطية وقوى تعادي الديموقراطية. لقد أصبح العالم بموجب هذا الوعي المانوي الخطير يستسيغ بلاغة أشبه بالبلاغة النازية، وهي تحرّض ضد اليهود قبل المحرقة، حتى صرنا نسمع عبارات في حق المسلمين من قبيل: “أغلقوا مساجدهم”، أو “أغلقوا متاجرهم”، أو “أخرجوهم من بين ظهْرانَيكم”.

ماذا يحصل؟ كيف تقف أوروبا عاجزةً عن إصدار بيان موحد يدعو إلى إيقاف إطلاق النار؟ ما يحصل يهدّد المنطقة بمزيد من التصعيد الذي لن يكون في صالح أحد. إن البلاغة المعتمدة في التعامل مع ما يحدث بلاغة تصبّ الزيت على النار، وتهدّد بتقويض الاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وبهدم جسور التواصل بين مكونات المجتمعات الأوروبية المتعددة تعددًا عِرقيًا ودينيًا وثقافيًا. إن منع المظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية في بعض الدول الغربية دليل على تخبّط النخب السياسية وانحيازها الأعمى الذي يخرج الموقف الأوروبي من دائرة الحياد باتجاه أفق غير واضح المعالم.

إنَّ تحليل الخطاب الإعلامي الغربي يَشي بأنَّ أميركا وأوروبا تفقدان كلّ نقاط الاسترشاد للسير في طريق المستقبل، ولذلك نراهما تتمسكان ببلاغة هي أقرب إلى بلاغة إمبريالية القرن التاسع عشر، منها إلى بلاغة جديدة تفتح أفقًا سياسيًا يضمن التعايش بين مختلف مكوّنات المنطقة.

إذا كان ما يصدر عن النّخب السياسيّة الغربيّة المتحكّمة اليوم يدعو إلى القلق والتشاؤم، ويعِد بمزيدٍ من الدمار والإبادة، فإنَّ ما يصدر عن الشعوب- هنا وهناك، من ردود أفعال طبيعية تشجب ما يحصل في غزة من قتل بطيء للأبرياء- يبعثُ على الأمل، الأمل في أن يلتحم الناس، بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافيّة والثقافيّة والحضارية؛ بحثًا عن أفق جديد للتعايش، واستشرافًا لنظام عالمي يخلُف النظام المتهالك.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات