“إسرائيل”.. تتأخّر لتعويض ما لا يمكن تعويضه!

بدأتُ بكتابة هذه المقالة في مطالع اليوم الحادي عشر لعملية “طوفان الأقصى”. في العادة كان عدوان الاحتلال على غزّة ينقضي بعد عشرة أيام، أو تكون الخطوة التالية هي “وقف إطلاق النار”، لكن الحاصل هذه المرّة أنّ العدوان في بدايته، ليس فقط لأنّ الأيام العشرة الماضية لم تكن كافية ليقضي شهوة الانتقام، أو ليرمّم هيبة جيشه بإلقاء كلّ ما لديه من مقذوفات على المكان الأكثر اكتظاظا في العالم في المساحة الأصغر، كلّ ما لديه، لأنّ ما لديه نفد فزودته أمريكا بالمزيد، ليس لأجلّ ذلك فحسب هو يقف في البداية، ولكن لأنّه في وضع غير معتاد عليه، في وضع يُبشّر بقتال حقيقيّ، يتجنّبه منذ عدوانه في العام 2014، ويتنافر مع الوضع الذي تحوّل إليه، من الجيش الذي يُبادر إلى الزحف والقتال إلى الجيش المحتمي بالمجسّات والتكنولوجيا الفائقة!
أخطر ما في “إسرائيل” الآن جرحها.. هذا الجرح المتسع على قدر الضربة التي تلقّتها فجر السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، هو الذي صعد بالقلق إلى ذروته من خطوتها التالية حين إدراكها لمعنى ما وقع عليها ذلك الفجر، لكنّها الآن، وهي تئنّ هيبتَها وصورتَها وتنزف صراخَ الفزع الوجودي، لم تنتقل بعد إلى الحرب البرّية في هياجها الانتقامي، الذي لا بدّ منه، لا بدّ منه مرّة أخرى، بسبب ما تلقّته ومعنى ما تلقّته، لا باندفاع من إرادة أصيلة لا تخشى القتال!
هذا الموقف الغريب من الهياج داخل الزاوية، زاوية الحسابات الدقيقة، والخيارات التي تتنازعها إرادة الانتقام والخشية من الانتقام نفسه، تتنازعها ضرورة الانتقام وضعف الإرادة السابقة على داعي الانتقام، هو غريب من جهة أخرى، وهي جهة الحرب البرّية نفسها على قطاع غزّة، وجهة أن تسمّي “إسرائيل” ما كانت تسمّيه “عملية” أو “حملة” حربا هذه المرّة؛ لأوّل مرّة منذ حرب تشرين/ أكتوبر 1973. فذلك العمق الجغرافي لـ”إسرائيل” كلّه والممتدّ على جبهتين في جنوبها وشمالها، بحيث تصير هي كلّها فيه، وسوريا ومصر، وبين جيوش دول، لا مثيل له الآن، فما ينبغي أن يكون جولة سهلة في هذه الـ365 كيلو مترا مربعا لهذه المساحة المسمّاة قطاع غزّة، يصير “حربا برّيّة”، حربا المدرّعاتُ فيها المستظلّة بالطائرات الخارقة لا يملكها إلا طرف واحد. لا يكاد يملك الطرف الآخر إلا البنادق، وما سوى ذلك أسلحة من قذائف مضادة للدروع، وعبوات متفجّرة، يصنعها بنفسه في قلب الحصار المطبق، إذن ما هذه الحرب البرّية في هذه المساحة وبهذا الفارق غير القابل لقياس القوّة أصلا؟!
تبدو القصّة غير قابلة للتصديق، لكنّها حقيقية بالفعل، لأنّ الإرادة هي التي صنعت الفارق وقلّصت المسافة، التي يُفترض أنّها غير قابلة بدورها للتقليص. والإرادة، والحالة هذه، لا تعود شعارا تحفيزيّا، ولكنّها واقع يحمل “إسرائيل” على تسمية ما كان يوما جولة ساعات على الأكثر، حربا، في تلك المساحة المستعصية على التحديد على الخريطة، وضدّ من لا يملك مسمارا في دبّابة، ليصير القتال بين الإرادة، الإرادة التي رسمت هذه الصورة الأسطورية الحقيقية جدّا، وبين كتلة القوّة المرتصّة من الطائرات والدبابات والصواريخ ومئات آلاف الجنود، ومن خلف ذلك العالم الغربي كلّه، الزاحف بالبوارج وحاملات الطائرات.
وينغي أن يكون حاضرا دائما أن ذلك كلّه يتأهّب لدخول غزّة، بمساحتها تلك التي لا تكاد تُذكر، وبالقوات تلك التي تتأهّب فيها بالإرادة فحسب، ليكون المعنى شديد الحدّة والكثافة، إذ هذا الموقف في وضع آخر أقرب إلى الكوميديا السوداء، أو العبثية الخالصة. في وضع آخر، لو تحصّل فيه موقف بهذا النحو، سيبدو العالم قد فقد عقله، ولكن العالم، وفيه “إسرائيل” وأمريكا وهذه الدول المرتجفة من إصبع التهديد الأمريكي، مفرطة في عقلانيتها، إلى درجة ارتسام هذا الموقف الغريب جدّا، والواقعي جدّا!
لم يكن لهذا الموقف الغريب التشكّل، لولا إدراك المقاومة في غزّة لـ”إسرائيل” على ما باتت عليه، لكن ما باتت عليه “إسرائيل” ساهمت هذه المقاومة في صنعه، ومن ثمّ صار لا بدّ من الاستثمار فيه، في لحظة سُمّيت بالانسداد التاريخي، أي أن الاستحالة قد انغلقت على الممكنات النضالية للفلسطينيين، إلا أنّ ما كانت تراه كتائب القسام غير ذلك، بإدراكها ما باتت عليه “إسرائيل”، وهو ما احتاج عملية فائقة في شكلها ومعناها، لتحقيق الخلخلة اللازمة فيما يبدو انسدادا تاريخيّا. وهذا النوع من التفكير يحتاج جرأة، لا تتوفّر إلا على قاعدة من الإيمان، الذي بدوره ارتفعت عليه الإرادة، هذه الإرادة الآن تحتاج “إسرائيل” تقليص الفجوة نحوها بفائض القوّة.
هذا التأخير الكبير الحاصل قبل الذهاب إلى “الحرب البرّية”، هو تعبير عن هذه المعضلة الإسرائيلية، معضلة أنّ المقاتل المحاصر في البيئة الضيقة المكشوفة بات قادرا على مفاجأة القوّة المدجّجة بالدبابة والطائرة والبارجة، وإيقاع الهزيمة المحقّقة بها، كما حصل فجر السابع من تشرين/ أكتوبر، ومن ثمّ تعلم دولة الميركافاه أنّ ما ينتظرها داخل غزّة أصعب، وهذه الدولة، بالرغم من غطرستها وكونها جيبا للإمبراطورية الأمريكية وبالرغم من دلالها على العالم، تعلم أنّ العالم يتغيّر ولن يسير بالضرورة على هوى دلالها، وأنّ هذا المقاتل المسلّح بالإرادة من أهمّ من يغيّر في هذا العالم، ولذلك فإنّها لم تتمكن من تحديد أهدافها وصياغة خطّتها المفصّلة للحرب البرّية، ولتبدو أهدافها أوّل الأمر ترهيبية مرتفعة جدّا، مؤسّسة على وجوب ترميم الصورة والإحساس بأن ما كانت تخشى من خسارته قد خسرته أصلا فجر السابع من تشرين/ أكتوبر، ثمّ لتؤول تالي الأمر إلى البحث في أهداف أكثر قابلية للتحقّق وبأقلّ قدر ممكن من الخسائر لتعود بصورة انتصار ما.
هذا التردّد داخل الزاوية كاشف عن مفارقة أخرى، فالدافع للانتقام هو الكابح للانتقام، فـ”طوفان الأقصى” الذي فتق جرح الكبرياء الإسرائيلي بحيث لم يبق أمام الإسرائيلي مناص من “إعلان الحرب”، فرض عطلا عملياتيّا بتدمير فرقة غزّة في الجيش الإسرائيلي المسؤولة عن العمليات الحربيّة ضدّ غزّة، وأنذر، لا بالصوت العالي ولكن بالفعل المحقّق، أن من تجرأ بضخّ الطوفان مستعد لما بعده، لكن يبقى الجرح مضطرا للدواء، الذي هو الانتقام وصورة النصر، فما العمل؟!
بالضرورة، تأخّرت “الحرب البرّيّة”، لذلك كلّه، ولأنّه صار لا بدّ من خطّة يطالب بها الأمريكي الذي لا بدّ وأنّه حريص أيضا على أن يمسح عار الهزيمة الإسرائيلي، ثمّ لأنّ التدافع في العالم لازم للوجود البشري بما لا يمكن للغطرسة الإسرائيلية نفيه، وبالإضافة إلى الأسباب السياسية والعملياتية، تبحث “إسرائيل” ومعها أمريكا عن الشروط الممكنة لعملية برّية تحقّق صورة الانتصار بأقلّ كلفة ممكنة، وما هو واضح أنه دخول متدحرج يسعى (ويا للمفارقة) إلى تقليص الفجوة، الفجوة مع المقاتل الذي لا يكاد يملك شيئا، تقليص الفجوة بمضاعفة الاستناد للقوّة، قوّة رصّ الدبابات والجنود على الأرض المحروقة، لتقليص الفجوة مع إرادة المقاتل الفلسطيني!
“إسرائيل” إذن تتأخر، لتعويض ما لا يمكن تعويضه، وهذا في حدّ ذاته يعني أنّها بوصفها قوّة لا تقهر قد انتهت.
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات

“فيتو أمريكي” يقف حجر عثرة أمام مجلس الأمن لتمرير مشروع قرار لوقف إطلاق النار بغزة
نيويورك - المركز الفلسطيني للإعلام أخفق مجلس الأمن الدولي للمرة الثانية في تمرير مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، بعد استخدام الولايات...

هكذا تنامى التأييد للقضية الفلسطينية بين الشباب الغربي بعد طوفان الأقصى
لندن – المركز الفلسطيني للإعلام سلط الإعلام الغربي في الآونة الأخيرة الضوء على تنامي التأييد للقضية الفلسطينية بعد أحداث الحرب في غزة، بين فئة...

هل غيرت أمريكا لغة خطابها أمام العالم تجاه ما يجري في غزة؟
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أثار التباين في الموقف الأمريكي من الحرب على غزة في الآونة الأخيرة جدلاً واسعًا، فبينما تسعى أمريكا بكل ما أوتيت من...

الإعلام الحكومي بغزة: عدد الشهداء يرتفع بالمئات ويمارس ضدنا سياسة تعطيش وتجويع وإذلال
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أكد مكتب الإعلام الحكومي في غزة في مؤتمر صحفي مساء اليوم الجمعة أنّ أعداد الشهداء بعد 63 يوما من الحرب الغاشمة على...

القسّام تستعرض قوتها الصاروخية وتضرب في العمق: “تل أبيب ستحرق والقدس ستتحرر” (شاهد)
غزة- المركز الفلسطيني للإعلام يواصل مجاهدو كتائب القسام وفصائل المقاومة خوض معارك بطولية ويتصدون ببسالة لقوات الاحتلال الصهيوني في محاور التوغل في...

إصابة جندي على حاجز عسكري للاحتلال بعملية في جنين واشتباكات بمدن الضفة
جنين – المركز الفلسطيني للإعلامأصيب جندي "إسرائيلي"، مساء اليوم الجمعة، في عملية إطلاق نار نفذتها المقاومة الفلسطينية، غربي مدينة جنين، شمال الضفة...

غوتيريش يحذر مجلس الأمن: قد تكون عواقب ما يحدث في غزة مدمرة لأمن المنطقة برمتها
نيويورك – المركز الفلسطيني للإعلام أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اليوم الجمعة، إنه لا توجد حماية فعالة للمدنيين في غزة، ولا يوجد...