الأحد 16/يونيو/2024

ماكرون.. والحلم الاستعماري الجديد

د. عبد الرحيم شهاب

كانت ظاهرة الاستعمار ولا تزال واحدةً من أسوأ وأخطر الظواهر التي عانت منها شعوب الأرض، حيث نهشت أنياب الاستعمار العديد من شعوب الأرض منذ انتشارها قبل أكثر من ستة قرون، بدعوى التنوير وإرساء قيم الغرب، ومبادئ حقوق الإنسان، وامتد السرطان الاستعماري ليستشري في جسد الوطن العربي الذي نال الحظ الأوفر من تلك المطامع الاستعمارية، حتى وصلت تلك الظاهرة إلى ذروتها في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وقد برزت السياسة الاستعمارية آنذاك كمقوم أساسي لاغتناء العديد من الدول الأوروبية، التي سعت لنهب مقدرات الشعوب وثرواتها، ثم اتسعت مقاصدها الاستعمارية لتشمل نوازع الاستغلال والتوسع والهيمنة، علاوةً على محو هوية الشعوب المُستعمَرة، وتأكيد تفوقها العرقي، ونفوذها الحضاري والثقافي والتقني، حتى أصبحت تنظر للشعوب التي ترزح تحت نير استعمارها كرعايا بل عبيد، وتسوقهم إلى حيث خدمة مطامعهم، وبسط نفوذهم، وهيمنتهم الدولية، بل تعدى ذلك لاستخدامهم مقاتلين في حروبٍ ليس لهم فيها ناقة ولا جمل.

وفي خضم هذه الصورة الاستعمارية القاتمة، وبعد تنامي شعور الشعوب المُستعمَرة بالظلم والقهر، ومع استمرار المستعمِرين بارتكاب أفظع جرائم القتل والقمع والسلب بحق البلاد المستعمرة، تولّدت العديد من حركات التحرر الوطني، حيث تنبهوا لمخاطر الاستعمار وأطماعه، في القضاء على معالم هويتهم الوطنية، وثاروا وقاوموا المستعمر، ودفعوا كلفة عالية عرقاً ودماً ودموعاً، وبذلوا التضحيات الجسام، حتى انهارت قوى الاستعمار، وخرجت صاغرة ذليلة من بلادهم، التي ما تفتأ تذكرهم وتخلد ذكرهم المجيد وبطولاتهم التي توارثتها الأجيال.

وبعد أن نالت البلدان المُستعمَرة استقلالها، نشأ نظام عالمي جديد، يدعو إلى دعم الشعوب المقهورة لنيل حريتها، واحترام حقوقها، وتقرير مصيرها، إلا أن ملامح هذا النظام لم تخفِ حقيقتها في الهيمنة والاستعلاء، حتى أخذت شكلاً جديداً من صور الاستعمار، يقهر الشعوب في عقر دارها، ويسلبها أعز ما لديها، في حين يرمي إليها فتاتاً من المنح، والهبات، والحسنات.

وبعد تلك التجارب، وما تلاها من أحداث، وتغيرات عالمية، إلا أن النبرة بل النزعة الاستعمارية لا تزال تسري كالسم الزعاف تجاه العالم العربي، ولكن بأشكال وصور جديدة، ولعل من آخر تلك الدلائل، تطاول الرئيس الفرنسي ماكرون على رسولنا وإسلامنا العظيم، وكل ما سبقها من محاربة لإرادة الشعوب العربية، ووأد ثوراتها التي أزاحت أنظمة قمعية، وقضت على الخيارات الديمقراطية للشعوب، فضلاً عن دعم الأنظمة الحالية المستبدة، وإخماد أي بصيص أمل يُسهم في تحرر الشعوب المقهورة.

نُخطئ نحن العرب والمسلمين حين نعتقد أننا بحاجة لأن يفهم الغرب مشاعرنا، ويدرك حبنا وتقديرنا لرسولنا عليه السلام، ويعي دافع تقديسنا لديننا، في عصر تسوده حرية الرأي والتعبير، لأنها قطعاً ليست مشكلة أفهام، بقدر ما تعكس مفهوماً استعمارياً أشمل وأعمق جذوراً، يتمثل في الهيمنة والوصاية علينا، ويضرب في منظومة قيمنا الثقافية، ويستخف بعرقنا وهويتنا.

فرنسا التي تتغنى بالحرية صباح مساء، هي نفسها تلك الدولة التي يزخر تاريخها بالاستعمار وارتكاب الجرائم، وهي ذاتها التي تَعَرَّض مثقفوها للتهديد والاختفاء عن الأنظار والسجن، لمجرد تأييدهم للثورة الجزائرية، وهي لا غيرها التي أصدرت يوماً قانوناً يمجد الاستعمار، وخرج رئيسها الأسبق ساركوزي ينفي وجود بلاده في مصر والجزائر والمغرب استعماراً، إنما كان وجودهم في نظره “حلماً حضارياً”.

لن تتراجع فرنسا عن تصريحاتها، ولن تغفر الشعوب للمجرمين عبر تاريخها، ولن تُطوى صفحة دول الاستعمار، وفي طليعتها إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وأمريكا التي تورطت في مستنقع الحروب والإرهاب، وخلفت ملايين القتلى، فليس من المنتظر من دول الاستعمار القديم أن تتحلى بالمسؤولية الأخلاقية عن أفعالها الشنعاء، وسجلها الحافل بالسواد، وما حالة الفقر والجهل والتراجع اليوم إلا شاهداً ودليلاً عليهم وعلى حقبهم الاستعمارية المظلمة، التي أخرّت تطور دولنا العربية، وأغرقتها في وحل الأزمات حتى يومنا هذا. 
وفي المقابل لن تتسامح الشعوب العربية والمسلمة مع ماكرون وأمثاله، حتى تتوقف دول الاستعمار الجديد عن حماقتها، وتكف يدها عن بلادنا وأمتنا، وتتركنا ومشروعنا الحضاري والإنساني، ولن تزول ظواهر التعصب والتطرف هنا وهناك إلا بمعالجة كافة مسبباتها، وفي مقدمتها عدم التعرض للمسلمين بما يؤذي مشاعرهم، والتوقف عن محاولة شيطنتهم، والنيل من كرامتهم.

إن هذه الهجمات المتكررة من فرنسا وأخواتها هي فرصة ذهبية لنا كعرب وكمسلمين لنجدد مناهضتنا وتصدينا لكافة أشكال الاستعمار الجديد وأفكاره، باعتباره وباءَ عمَّ بلادنا، ومقاومتنا لكل ما يمس كرامة الإنسان، ووقف كل ما يهدد قيمه الإنسانية، ويشوه هويته الثقافية والحضارية، والتصدي للحرب النفسية التي تهدف لاستفزاز الشعوب المسلمة، وزعزعة ثقتها بدينها، والنيل من عزيمتها، ومواجهة خطاب التحريض والعنصرية الذي يفتك بِعُرى الشعوب، ويلعب بعقولها، ويَمزق التواصل الإنساني بينها.

كما أنها تمنحنا دفعة روحية قوية لإحياء سنة نبينا، واستحضار النماذج المشرفة من تاريخ أمتنا، والاعتزاز بديننا وقيمنا، والتشبث بتاريخنا وتراثنا، وإنعاش بعض المفاهيم الغائبة في حياتنا، كالتسامح والتكاتف، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، حتى نغدوا كالشامة في أعين الأمم والشعوب، إذ لن يُستعاد مشروعنا الحضاري المجيد، ما لم نتيمَّن بالعلم، ونتدثر بالعزم، ونتحلى بالأخلاق، لنبعث نموذجنا الفريد الذي انتهجه أسلاف أمتنا بكل جدارة واقتدار.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات