الثلاثاء 21/مايو/2024

قراءة في مقومات الحراك .. الإستراتيجية المرنة والوعي بالمرحلة (2)

هشام توفيق

كنت رصدت سابقا في المقال الأول مقوم اليقين في مسار مسيرات العودة كعامل أساس في تغيير إرادة شباب غزة والشعب الفلسطيني إلى إرادة قوية صادمة لا تتزعزع رغم تجليات صفقة القرن وعلو رياح الخناق والعدوان وسفك الدماء، يقين فإرادة صادمة كان لها ما بعدها حين تجاوزت كل التوقعات الصهيونية التي ظنت أن اصطفاف الآلات العسكرية على الحدود ونشر الدبابات والقناصة وتصعيد الإجرام والحصار سيحبط إرادة الشباب ويربك نفسهم ويدخلهم في هزيمة وهلع وخوف، لكن على العكس رصدنا هنا في حراك غزة فضلا عن مقوم اليقين، حضور مقومين إضافيين ساهما في نمو إرادة الشباب واستمرارية مسيرات العودة التي لا تعد شكلا عابرا عبثيا، بل حدثا يحسب له حساباته وتقدر له الدراسات للعبرة والتوثيق والتحليل:

ـ مقوم الإستراتيجية المرنة

ـ مقوم الوعي بالمرحلة

بعد حديثنا عن مقوم اليقين نعرج هنا إلى مقوم آخر لا يقل عن الأول أهمية وهو عامل الإستراتيجية المرنة والذي ساهم بشكل كبير في تثبيت الحراك واستمراره.

مع حضور شعب غزي فلسطيني في مسيرات العودة قوي اليقين ثابت الإرادة واضح الرؤية والرسالة والأهداف، نحتاج دائما إلى إستراتيجية توجهه قبل المعركة وفي المعركة وبعدها.

الإستراتيجية خطة عمل وفهم لخيوط المواجهة ونسج لفعل محكم لا ينبغي أن يعرف الزلل أو يسقط في الضبابية في حالة التدخل الصهيوني العسكري والعدواني.

مقوم الإستراتيجية

الإستراتيجية رؤية واضحة وفقه للميدان ومعرفة بتحديات المستقبل، هي عامل تثبيت وتقوية لِلنَّفَسِ الْفِلَسْطِينِيِّ والغزي في أرض المعركة دون شتات فكري أو حركة إمعية.

قد ظن الاحتلال أن تصعيد الحصار بعد مسيرات الشباب سيفعل فعلته ويشتت النفوس خرابا وفشلا، ويدخل العقول في الشك هزيمة وانحسارا وقتلا، ويحطم الأجساد حصارا ومرضا وجوعا، لكن أرباب استرايجية مسيرات العودة كانت استعداداتهم لردود العدو وتصعيده في الحصار والعدوان مَحَّلَ الْفَهْم وَالتَّوَقُّعِ مما خلف نَمَاءً متزايدا في الثبات والصمود ومواجهة العدو.

لذلك راهن العدو لكسر إرادة شباب مسيرات العودة على الردة القوية العسكرية والإجرامية بإكثار القتل، وتكثيف العقوبات، وتوظيف سلطة رام الله لتصعيد الخناق وإفشال أي تهدئة وتمييع أي انتصار، فضلا عن تدخل أمريكي يدعم ويخنق ويقرر ويهدد قيادات مسيرات العودة وحراك غزة.

هذا التكالب كله فشل في التقويض من إرادة الشعب الفلسطيني والغزي لوجود شباب لهم استرايجية ميدان تراهن عليه، وتتحسب لكل التوقعات والاحتمالات ضد العدوان.

في المقابل شهدنا أن الاحتلال هو الذي نال الصدمة الذي رغبها في غزة تخطيطا وتنزيلا، نال الصدمة لأنه اعترف بوجود تحرك غير مسبوق للشباب وَظَّفَ أُسْلوبَ الْمُبَاغِتَةِ والإبداع من طائرات ورقية، وإسقاط للطائرات الصهيونية الصغيرة، وإبداع فكرة الكوتشوك إلى إبداع أسلوب الإرباك الليلي ومسيرات البحر، بل ونقول للكيان الصهيوني الْقَادِمُ أصعب وأشد ويحتاج إلى دراسات وبحوث من قبل مراكزكم بعدما انهزمتم وفشلتم إلى حد التهدئة والتراجع.

والسبب في بروز معالم انكسار الاحتلال وهزيمته، أنه هَوَّنَ من أسلوب الشباب بالرغم من محاصرته وقمعه وتجويعه لكنه يغضب بذكاء ويتحرك بعقيدة وإيمان، وينسج طريقه بتدرج وإبداع وإستراتيجية محكمة.

وأظن أن الإستراتيجية حراك غزة نالت قوتها استمدادا وارتشافا من بركة الله وبيت المقدس وبركة التخطيط السببي ومن يقين الشباب الذي يرسل حجرة مِنْ كَفِّ تَعْمَلُ بأجر بسيط، فتصيب طائرة صهيونية تساوي الملايين، هي بركة المسجد الأقصى ودعوات الصالحين من الأمة (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).

لا أنصح الأفهام للصهيونية التحليل أكثر في هذا المشهد لأنه أمر غيبي ربما البحث فيه سيوصل إلى الجنون لكن إن سأل امرأة عجوزا مسلمة فستقول هي “عناية الله”.

فحذاري الغوص في ذلك، فعقولكم الصهيونية العنصرية يصعب عليها الوصول إلى سر ذلك.

الوعي بالمرحلة

وأظن من مقومات استمرار الحراك كذلك “مقوم الوعي بالمرحلة” وهذه تحسب لغزة التي فقهت خيوط الصفقة ومآلاتها وماذا تريد.

مسيرات العودة أرادت تبليغ رسالة إلى الأمة والشعب الفلسطيني مع خطورة تصاعد تصفية مقومات الأمة التي كانت مناصرة للقضية الفلسطينية من اعتقال العلماء والدعاة، ومن استهداف صفقة القرن المؤسسات والمنظمات اليونسكو الإسكوا، منظمة الانروا، واستهداف دول كانت مناصرة للقضية واتهامها بالإرهاب لدعمها لقيادات المقاومة ..

من خلال هذه العمليات المتدرجة لأرباب صفقة القرن لضرب بواعث حراك الأمة و المناصرة للقضية، فقهت غزة بالخطة التمهيدية (بقيادة ثلاثي استكباري يجمع المشروع الصهيوني وعربية وأمريكية) بتصفية مبدئية لمقومات الأمة أولا لإزالة المشوشات لصفقة القرن تمهيدا لتصفية الأساس للأمة وهي فلسطين أمل الأمل وقدسية الأمة، ولن يتحقق ذلك بطبيعة الحال دون إنهاء للقدس ثم المقاومة.

بعد السبق الغزي في تفكيك اللعبة والفقه بخيوطها صممت الجهود الغزية على مواجهة هذه الصفقة على أعلى مستوى من خلال :

– الفعل في الميدان عبر حراك مسيرات العودة.

– التوعية بالمرحلة وبمخطط الصفقة مما دفع مسيرات العودة إلى توجيه الشعوب إلى البوصلة إلى الداء الناخر في قلب الأمة وَالْمُخَطِّطِ لتصفية مقدساتها وهو المشروع الصهيوني دون اعتماد على أنظمة أو جامعة عربية، بل كانت تتحسس قوى غزة عبر تصاعد التطبيع العربي الصهيوني لكل شيء، وتتحسب لكل تصريح من أي حاكم أو سلطان أو ملك يعد صفقة القرن وتهويد القدس و شيطنة المقاومة.

– الفعل خارج المعركة عبر التواصل الإعلامي الدولي والدبلوماسي والحقوقي لإيصال جرائم الاحتلال ضد شباب عزل عار لا يحمل صواريخ ولا قنابل، بل يرغب بالعودة والعيش وفق القانون الدولي والإنساني.

فكأن الإستراتيجية عملت في اتجاهين :

– اتجاه كسر الحصار داخليا.

– واتجاه ضرب الرواية الصهيونية خارجيا عبر نشر حقيقة الشعب الفلسطيني ومسيرات العودة والدعوة إلى المقاطعة ومناهضة هذا الميز العنصري.

وأظن أن قيادة مسيرات العودة كانت واعية بعملية تنزيل صفقة القرن منذ قرار ترامب وَوَعَتْ أَنَّ الْحَبْلَ عَلَى الْجَرَّارِ بعد تهويد شامل للقدس، وأن المقاومة ستكون هي الهدف التالي ما دامت هي حامية القدس وفلسطين وهي أهم من الأرض.

وقد رصدت قوى غزة خطورة الصفقة والإعداد لتصفية القدس وغزة والمقاومة من خلال :

-توجه سريع لتدخل ورقة أمريكا في الشأن الفلسطيني تقريرا وتدخلا سياسيا وميدانيا.

-توجه جديد غير مسبوق لدول مطبعة اعتقلت العلماء وحاصرت الجمعيات والنشطاء المناهضين للتطبيع، وصنعت علماء وشخصيات ضد المقاومة ومع حق وجود “إسرائيل”، ونظمت مسابقات ورياضات ومشاركات ورقصات في قصور تبجل الكيان الصهيوني والتنسيق وتشير إلى صفقة قرنية لإنهاء القضية. .

-توجه جديد لحكام في تصريحاتهم لإنهاء القضية الفلسطينية مع إجبار الشعب الفلسطيني على الخرس والسكوت.

-توجه غير مسبوق من سلطة رام الله في تنسيق حتى النخاع مع الاحتلال وهو توجه تنسيقي يفتل في التوافق على صفقة سرية جاوزت صفقة أسلو بعد فشلها.

الوعي بالمرحلة وسياقها التاريخي

الوعي الغزي الفلسطيني بالمرحلة وَاجَهَ هذا التنزيل المتسارع لخطوط صفقة القرن والتصاعد غير المسبوق للتطبيع بصناعة للفعل أربك الاستكبار وصفع الأساطير الصهيونية، الذي استنتجت أن المقومات التي حققت صمود وثبات الشعب الفلسطيني منذ مائة عام هي نفسها التي ستشكل خطورة في حالة وظفت من شباب مسيرات العودة وحراك غزة.

فاستدعاء مشروع المقاومة الشعبية في مسيرات العودة بعد تراكم غضبي زمني سيحقق استكمالا لمشروع المقاومة الذي صدم المشروع الصهيوني والأمريكي والعربي حين ظن أن جهوده بعد قرن من الزمن سَتُخْرِجُ شَعْبا مُنْقَطِعًا عن تاريخه، مطموس الهوية مدجنا ضعيفا.

لكن مسيرات العودة خصوصا، والحراكات في الخان الأحمر والقدس والخليل والضفة عموما وعت بالتاريخ وارتبطت بجذور الصمود والثبات، لتقول أصوات الشباب الفلسطيني الواعية بتاريخها بمعية أصوات الأمة المناصرة : ” أن غضب الأمة وغزة والشعب الفلسطيني ممتد تاريخيا وجغرافيا، فتاريخنا في التحرير والصمود بدايته منذ حركة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أرض الإسراء والمعراج ليريه الله من آياته، ومنذ وعي ميمونة بنت سعد رضي الله عنها بفقه تحرير بيت المقدس وهي أول امرأة تسأل النبوة عن التحرير وكيفيته ومقوماته حين قالت : يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

” ائتوه فصلوا فيه- وكانت البلاد إذ ذاك حرباً-، فإن لم تأتوه وتصلوا فيه؛ فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله ” .أخرجه: أبو داود رقم (457).

بل وتاريخنا في مواجهة الاحتلال والظلم ممتد صموده منذ فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبيت المقدس بأمة كانت واعية بمقوم الوعي بإستراتيجية التحرير ومواجهة العدو مع مقوم اليقين في وعد الله. .

كل حركة ثبات وجهاد لشباب مسيرات العودة وحركة الشهداء وكل حراكات الأمة من أجل فلسطين والأقصى هي تفتل في حركة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح بيت المقدس بحركة دابة، ورداء مرقع، وغلام يتناوب معه قراءة للقرآن عدلا ورحمة.

قد يظن المشروع الصهيوني أن حراك مسيرات العودة وبطولات الشهداء وليد اللحظة، في حين نقول له، بل إن انتفاضات فلسطين السابقة، وحراك القدس والأسباط والمرابطين والمرابطات وآل الخان الأحمر وخليل جبارين وعملية البركان كلها مواقف وملاحم تمتد بركتها وقوتها منذ فتح صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي وعى بِشَرْطٍ أساس لمواجهة العدو، وهو مقوم تحرير الوعي وإرادات الأمة من الغثائية والأعرابية والوهن والخوف لتتحرر الأرض من كل الكيانات وكان ذلك وسيكون.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات