عاجل

الثلاثاء 11/يونيو/2024

لماذا قاد الجيش الإسرائيلي موقف تجنب الحرب للتخفيف عن غزة

ناصر ناصر

من المفترض أن يتحرك الجيش ويبني مواقفه بدوافع واعتبارات عسكرية واستراتيجية وتكتيكية بالدرجة الأولى؛ بينما تتحرك الحكومة وتتخذ قراراتها وتحدد أهدافها في أوقات السلم والحرب بناء على اعتبارات سياسية عامة وواسعة تأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية إلى جانب الاعتبار العسكري، فالتفكير العسكري إذن يرى بالعدو (وهنا غزة بالنسبة للاحتلال) هدفا يجب التغلب عليه من خلال الاستمرار في ضربه دون النظر أو المبالاة بمعاناته ، بل على العكس من خلال زيادتها ، فاللعبة في نظر العسكر صفرية، وذلك بعكس التفكير السياسي للحكومة، فالعدو هنا كيان إنساني ودولي يجب أن يتم إقناعه، وإرضاؤه حتى بعد هزيمته.

لا يحدث هذا في حالة “إسرائيل” تجاه غزة، بل يمكن القول إن الأمور معكوسة بدرجة واضحة: فالجيش يوصي منذ سنوات بضرورة تجنب الحرب مع غزة من خلال التخفيف الإنساني والاقتصادي عنها . فلماذا هذا الموقف؟ 

قد يكون السبب الأهم فيما يشبه “الانقلاب الوظيفي” بين العسكر والساسة في “إسرائيل”، هو التحولات العميقة والتي ما زالت تجري منذ أكثر من عقد من الزمان، وهي انزياح المجتمع الإسرائيلي، ومعه الخارطة السياسية الحزبية في “إسرائيل” نحو اليمين، وزيادة قوة وتأثير اليمين القومجي والديني، فيما بقيت النخبة العسكرية ورغم تأثرها الواضح بهذه التغيرات، موالية (لإسرائيل القديمة) من حيث الرؤية والفكر، والتي يمثلها سياسيا أحزاب الوسط واليسار كحزب العمل وحزب يوجد مستقبل وغيرها، وهي نخبة تؤمن بدرجة ما وتحت شروط معينة بفكرة تقسيم البلاد وحل الدولتين والتوصل لحلول وسط بشكل أو بآخر، وبما يضمن وضوح التفوق الإسرائيلي أمنيا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا.

إن حرص وزير الجيش ليبرمان المستميت على الظهور بمظهر (الصقر المفترس) الذي يحارب حماس ومقاومة الشعب الفلسطيني في كل مكان دون هوادة، وعلى أن يتنصل من أي مسؤولية عن ما يبدو كاتفاق لوقف النار بين المقاومة الفلسطينية الباسلة ودولة الاحتلال، حتى بثمن (اللف والدوران) المكشوف يؤكد مدى عمق الفكر العسكري المدعوم بفكر يميني متطرف في أوساط الناخبين من اليمين ومن ناخبي ليبرمان ومعظمهم من المستوطنين بشكل خاص، وذلك بخلاف النخبة العسكرية المسيطرة على الجيش. 

يبدو مستهجاً ومرفوضاً من كل عربي ومسلم أو لكل نصير لحقوق الإنسان وحريته ما يحاول بعض الكتّاب الغربيين أو الإسرائيليين تسويقه حول الدوافع والمواقف الأخلاقية للجيش الإسرائيلي وذلك من خلال إبراز مواقف وتصريحات بعض كبار الجنرالات الصهاينة كيائير جولان وايزنكوت دون التركيز على سياقها الداخلي حيث كانت ردًّا على هجمات اليمين الاستيطاني ضد موقفهم من ضرورة محاكمة الجندي منفذ الإعدام الميداني للشهيد عبد الفتاح الشريف من الخليل والتي اعتمدت فعلياً على مخالفته تعليمات وأوامر إطلاق النار المعمول بها في الجيش، فلا يمكن لقوات احتلال عسكرية تقصف وتقتل وتدمر بلا هوادة حياة شعب آخر لمدة أكثر من 70 عاماً أن تكون أخلاقية بأي حالٍ من الأحوال، أن للدوافع والأسباب المهنية وزناً واضحاً في موقف الجيش بتجنب الحرب مع غزة ذات الجغرافيا الصغيرة والكثافة السكانية الكبيرة والمقاومة الفلسطينية المثابرة والعنيدة، فماذا يريد الجيش من غزة سوى الهدوء ؟ ولماذا سيدفع ثمناً باهظاً من موارده البشرية والمالية والمعنوية لاحتلالها أو حتى لمجرد المواجهة الواسعة.

وعليه فقد بنى الجيش رؤيته لغزة على أساس عدم العودة لاحتلالها والاكتفاء بمناوشتها وتوجيه ضربات لها من خلال ما يسمى بلغة الجيش بعمليات (مبم) ومن هنا صاغ ميزانياته وبنى منظوماته العسكرية الاستراتيجية والتكتيكية فهل يمكنه فعلياً إعادة النظر في هذه الرؤية وتلك المنظومات من أجل إرضاء الجانب اليميني الناري أو إشباع رغباته وغرائزه العنيفة التي لا تكتفي بدمار عمليات (مبم) ؟ ومن ثم التوصل لما يمكن التوصل به من خلال رؤيته الأصلية وذراعها (مبم) حتى وان أراد الجيش إعادة بناء هذه الرؤية، فهل يستطيع فعل ذلك بين عشية وضحاها، لا يقول بهذا عاقلٌ أو حكيم، وعليه فالجيش ليس مستعداً عسكرياً لاحتلال غزة والسيطرة عليها لمدة طويلة، لذا ضغط باتجاه تجنب الحرب معها.

لم تلق دوافع المصلحة الخاصة لمؤسسة وقادة الجيش نصيباً من الدراسة أو الانتباه واهم هذه المصالح تجنب التعرض للملاحقات القانونية من محكمة الجنايات الدولية والأحكام المتعلقة بملاحقة مسئولين عن جرائم حرب لا بد وان تحدث بأي معركة واسعة في غزة ولا يمكن إلا أن تصل للرأي العام وللجهات القانونية بفضل التطور الكبير في وسائل الإعلام الخاصة والعامة.

ومن أهم مصالح الجيش الخاصة هي مصلحته كتنظيم أو كمجموعة مصالح (كمركز الليكود مثلاً) فهو يحرص على سمعته ومكانته العالية في أوساط المجتمع الإسرائيلي فهو يرى أن إقحامه في معارك واسعة ومضنية ولا يمكن حسمها في غزة ستستنزف موارده وستسيء إلى سمعته ومكانته المحلية والدولية إضافة إلى أنها ستعرضه للمزيد من الضغوطات المطالبة بزيادة الإشراف على ميزانياته حيث بلغت ميزانية الأمن 71 مليار شيكل سنة 2017 ونجاعته أو كشف حقيقته كجيش منتفخ وسمين بحاجة إلى (ديتا أو ريجيم صحي ) مما قد يؤدي إلى التخفيف من بعض الامتيازات التي يحظى بها جنود وضباط كرواتب التقاعد الباهظة. 

وهكذا اجتمعت عوامل التغيرات المجتمعية والأسباب المهنية إضافة إلى المصالح الخاصة للجيش لتسهم بشكل حاسم في إصرار الجيش على تجنب الحرب من خلال خطوات جوهرية للتخفيف عن قطاع غزة.

 

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات