الثلاثاء 21/مايو/2024

أصوات تنوير أم أبواق دعاية

حيدر المصدر

كثيراً ما تستوقفني مواقف وتحليلات يطلقها عدد من “قادة الرأي” على مواقع الإعلام الإجتماعي، لأتساءل حول حقيقة الدور الذي يؤدونه خدمةً للقارئ. فالمفترض بهم تحليل الأحداث وتفسيرها، وتقديم الرأي والمشورة حولها بموضوعية وعمق، دون الإنزلاق نحو هاوية الترويج لأجندات بعينها، أو إشباع حاجات نفسية، لا تخدم صالح الجمهور.

بيئتنا الشبكية الفلسطينية مليئة بهؤلاء، ولم يعد معيار القُرب من السلطة أو التمتع بالمكانة الإجتماعية عاملان يحددان من هو قائد الرأي، فالتكنولوجيا أسهمت في تغيير مفهومها التقليدي، ليشمل كل فرد يحظى بمتابعة جماهيرية كثيفة، يستطيع من خلالها نشر وترويج آرائه، وإن خالفت أو تماهت مع هوى السلطة.

هذه الحرية ذات الحدين، مع ما يكتنفها من شعوبية فوضوية، أسست لحالة ثقافية سطحية، لا تأخذ بالحسبان شروط التخصصية، أو عميق المعرفة والخبرة. فما يميز قائد الرأي عن غيره، قدرته على إبتكار الأفكار، وتوجيهها بشكل مهني مدروس، دون الإلتفات للمخاطر المحتملة. لهذا، فسمات المعرفة المتخصصة، والرؤية بعيدة المدى، إضافة للحيوية وحسن الإتصال التفاعلي، هي التي ننطلق منها لتمييز قائد الرأي الحقيقي عن المزيف.

ولسنوات عدة، كان قادة الرأي يتوسطون العملية الاتصالية، ويؤسسون لأجندة الجمهور، عبر تحديد القضايا التي تستحق الإهتمام والمتابعة. أما اليوم، ومع تغير الزمن، أصبح الجمهور فاعل أساسي في ترتيب الأولويات، مع ما يعنيه من إرتهان لأهواء شبه شعبية، تختلف في رؤيتها عن تلك التي تريد لها جهة ما أن تتصدر. خطورة هذا الأمر على الحالة الفلسطينية، أنه سمح بظهور ألوان من “قيادة الرأي” لا يمكن وصفها إلا بالكارثية، لإتخاذها عدة أشكال كـــ”الناقل الإخباري”، أو “مقتبس الأفكار”، أو “صاحب التعليق”، وغيرها من الأنواع التي لا تحتكم لمقاييس تصنيف تقليدية، بل تعتمد معايير رقمية، كعدد المتابعين أو حجم المشاركة والإنتشار. هذه الصنوف لا تبرع في صناعة جمهور واعي، ولا تملك مقدرة ربط الأفراد بالواقع المأمول، بقدر ما تنحى إلى تغذية الخلاف وسوء التقدير، وإن بدا تلقائي غير مقصود.

هذا التحول في مفهوم وهوية قائد الرأي ألقى بظلال سلبية على نوعية الأفكار المطروحة، وطريقة تناولها ومعالجتها. فالرأي أو المعلومة السطحية لا تستجلب إلا مناقشات ومناكفات سخيفة، لإعتمادها على تفاعل جماهيري مفتوح، لا يقتصر على المختصين؛ إضافة إلى أن مبعثها لا يتصل برغبة عملية في إيجاد الحلول، بقدر ما يرتبط بنزعة تسعى للظهور والشهرة، أو تعبر عن ممارسة دعائية ترى في أخطاء الآخر فرصة للهجوم والتشنيع.

نحن أمام ظاهرة ترسخ تأثيرها، وباتت تقود النقاش العام بإتجاهات بعيدة عن الصالح الوطني، ليصبح قائد الرأي الحقيقي رهن تفاهة وسطيحة من يرى في نفسه شخصية عامة، لها الحق في التعليق المطلق على كل شاردة وواردة، ضمن إطار سياسي أو إجتماعي ضيق، ملأت الحزبية جوانبه. وأخيراً، وبقدر ما أسهمت تكنولوجيا الإتصال في إيجاد بيئة ديمقراطية للنقاش الموضوعي البناء، إلا أنها جلبت وبنفس المقدار عالماً سفلياً مظلماً، يتخذ من الكراهية ونبذ الآخر أسلوب حياة……… والله المستعان

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات