عاجل

الثلاثاء 21/مايو/2024

في معركة القدس.. هل تحتاج الجزيرة إلى مردخاي كيدار؟

ساري عرابي

ما تزال قناة الجزيرة، الأكثر متابعة داخل فلسطين، من بين القنوات العربية والمحلية كلّها، بحسب ما يقوله استطلاع الرأي الذي أجراه أخيرًا مركز رام الله للدراسات المسحية، ويمكنني القول إنني أرصد ذلك بنفسي، فغالبًا ما أجد صدى لظهوري على الجزيرة، بين معارفي وأصدقائي، أكثر مما أجده لظهوري على القنوات الأخرى، بما في ذلك المحليّة منها.

حازت الجزيرة على مكانة عالية في تقدير الجمهور العربي، والفلسطيني منه، لجملة أسباب، يهمّني منها الآن اقترابها الشديد من قضايا الأمّة، ومنها القضيّة الفلسطينية، فقد اقتربت من كل ما يخصّ الفلسطينيين، في كليّاته وجزئيّاته، في اجتماعهم وتاريخهم وكفاحهم، وتحدّثت عن كلّ شيء، وعرّفت بكلّ شيء، ولن نبالغ إن قلنا إنّها ساهمت بدور مهمّ للغاية في وصل جماهير الأمّة بالقضية الفلسطينية، وفي توفير منبر غير مسبوق للفلسطينيين.

صحيح أن الجزيرة اقترفت منذ تأسيسها، تلك الخطيئة الكبيرة، بإظهار المتحدثين الصهاينة على شاشتها، وقد ظلّ هذا السلوك في رأي الغالب من نخب الأمّة ومناضليها سلوكًا تطبيعيًّا، وقد ظلّت حجة الجزيرة في تقديم هؤلاء هشّة لا تقوى على تبرير هذا السلوك، بيد أن أدوارها الأخرى، التي خدمت القضية الفلسطينية، أبقت لها مساحة من تقدير تلك النخب، لاسيما بالنظر إلى واقع الإعلام العربي المزري خلال السنوات العشر الأولى من عمر الجزيرة.

تقوم الجزيرة اليوم بدور مهمّ كذلك في انتقاد المطبّعين العرب، وفي كشف المستور من ممارسات تطبيعية سرّية تقوم بها دول عربيّة كبرى، تتضمن خططًا ومقترحات لتصفية القضية الفلسطينية، صحيح أنّ الأمر في جانب منه مرتبط بظروف الحصار التي تمرّ بها قطر، لكنّ هذا الخطاب المهمّ، وبصرف النظر عن دوافعه، سيفقد الكثير من مصداقيته مع استمرار المسلك التطبيعي الذي تمارسه الجزيرة باستضافة متحدّثين صهاينة على شاشتها.

كان يمكن للجزيرة، وبعدما تراجعت مساحة الإعلام التلفزيوني في المتابعة الجماهيرية، ومع طفرة في المنافسة التلفزيونية؛ واختلاف اللحظة الراهنة عن تلك التي انطلقت فيها الجزيرة؛ كان يمكن لها، أن تستثمر فيما رفعها عند الجماهير، وبما يعزّز مصداقيتها الحالية في خطابها الموجّه ضدّ بعض الدول التي تمارس تطبيعًا سرّيًّا، أو تتنكر للقضية الفلسطينية، لكن وبدلاً من ذلك استضافت القناة في مرات متتالية متحدثين صهاينة في برنامجها الأشهر الاتجاه المعاكس، والذي لا تسمح طبيعته بمناقشة رصينة، لاسيما في الموضوعات البحثية الحسّاسة.

أخيرًا، في البرنامج إيّاه، والذي بثّ يوم الثلاثاء 12 كانون أول/ ديسمبر، استضافت القناة مؤرّخًا صهيونيًّا يزعم أنّه لا حقّ للمسلمين في المسجد الأقصى، ويدّعي أنّ المسجد الأقصى الذي أسري إليه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، في الجعرانة بالقرب من مكّة المكرّمة.

يجدر التنويه إلى أنّ مردخاي كيدار الذي استضافته القناة في البرنامج إيّاه، هو الذي أوحى ليوسف زيدان، دعيّ الفلسفة والأدب، بحكاية أن المسجد الأقصى المذكور في القرآن ليس ذلك الذي في فلسطين.

قبل أن نبيّن الخطيئة المركّبة في هذا السلوك المعيب؛ يجدر التنويه إلى أنّ مردخاي كيدار الذي استضافته القناة في البرنامج إيّاه، هو الذي أوحى ليوسف زيدان، دعيّ الفلسفة والأدب، بحكاية أن المسجد الأقصى المذكور في القرآن ليس ذلك الذي في فلسطين.

لكنّ الأولى بالتنبيه والتذكير، هو أن قناة الجزيرة خصّصت برنامجًا من برامجها، وربما بعض الفقرات من نشراتها الإخبارية، للردّ على يوسف زيدان، وها هي الآن، تستضيف أستاذ يوسف زيدان لترديد السخافات التاريخية نفسها، في برنامج، لا يصلح أبدًا، لمناقشة موضوعات من هذا النوع!

أين الجريمة المركّبة فيما فعلته الجزيرة؟
أولاً-
في المبدأ. من حيث الأصل، استضافة متحدثين صهاينة على شاشة القناة، لا يراعي خصوصية القضية الفلسطينية، بمعنى إنّ القضية الفلسطينية، ليست تعبيرًا عن صراع يحتمل وجهات النظر، نحن باختصار شديد لسنا في صراع تقليدي، صراعنا مع الصهاينة لا يكاد يشبهه صراع في الأرض، وأي استضافة لمتحدثين صهاينة، وتحت أي عنوان، تنقل صراعنا من طبيعته الخاصّة، الجذريّة الوجوديّة، إلى طبيعة أخرى تجعل من الصراع، صراع وجهات نظر، ومن ثمّ فاستضافة مؤرّخ صهيونيّ يشكّك في حقّ المسلمين في المسجد الأقصى تطور طبيعي للمسلك التطبيعي!

نحن الفلسطينيين، من حقّنا، بل واجبنا، أن نرفض أيّ مسلك يمسّ بطبيعة قضيتنا، ويصرفها إلى طبيعة أخرى، مهما كان تقديرنا للأدوار الأخرى التي تقوم بها القناة. 

ثانيًا– تلك المسألة عمومًا، أي من حيث طبيعة القضية الفلسطينية، وخطورة أيّ مظهر تطبيعيّ مع العدوّ الصهيوني، وهو ما يزداد تشديدًا حينما يتعلق الأمر بمناقشة الدعاية الصهيونية الاستعمارية، فلو سلّمنا جدلاً بمبررات استضافة متحدثين صهاينة على شاشة القنوات العربية، فإنّ هذه المبررات تتهاوى تمامًا حينما يتعلق الأمر بمناقشة الحقّ التاريخي، إذ يجري تحويل الكذبة الاستعمارية التي غطّت احتلال فلسطين إلى وجهة نظر قابلة للنقاش، فكيف ومنبر النقاش برنامج الاتجاه المعاكس؟!

إنّ ما ينبغي على الجزيرة، إن كانت معنية بتفنيد الدعاية الصهيونية الاستعمارية، أن تفعل كما فعلت من قبل مع يوسف زيدان، يمكن للقناة عرض الدعاية الصهيونية لنقضها وبيان زيفها، لا لجعلها وجهة نظر قابلة للنقاش، بمعنى عرضها من موقع مسؤول. لن أقول من موقع نضالي، لكن على الأقل من موقع يراعي القدر المطلوب من الأمانة وحس المسؤولية من مؤسسة إعلامية عربية لها بالفعل مواقف مشكورة ينبغي أن تهتدي بها لاتخاذ الموقف الصحيح من هذه المسألة.

ما ينبغي على الجزيرة، إن كانت معنية بتفنيد الدعاية الصهيونية الاستعمارية، أن تفعل كما فعلت من قبل مع يوسف زيدان، يمكن للقناة عرض الدعاية الصهيونية لنقضها وبيان زيفها، لا لجعلها وجهة نظر قابلة للنقاش

ثالثًا– تأتي هذه الاستضافة الشاذّة في وقت بالغ الحرج، وفي ظلّ غضب عارم لأجل القدس، نعم لأجل القدس التي يشكّك مردخاي كيدار في حقّنا فينا. لا شكّ أن الجزيرة لا يخفى عليها، أن هذه المسألة لبست موضوعًا لصناعة البريق الإعلامي، وليست من الموضوعات التي يمكن الترخّص فيها لجذب الجمهور، هذه قضية أكبر وأقدس وأطهر من أن تستخدم لـ “الشو” الإعلامي!

وأخيرًا..
ينبغي القول، إنّ كل تبرير لاستضافة متحدثين صهاينة في القنوات العربية، بحجّة كشف زيفهم، وفضح أكاذيبهم إنّما هو تبرير متهافت، إذ التطبيع ليس حاجة لهذه الغاية، التي يمكن القيام بها بحسّ مسؤول ومن موقع الانتساب للعروبة، التي تنتسب لها الجزيرة، بل وبالتضافر مع الأدوار الإيجابية الأخرى التي تقوم بها القناة.

كما أن الموضوعية ليست حجّة في هذا السياق، فالقناة نفسها، في خطابها لا تساوي بين نضالنا وإجرامهم، وبين شهدائنا وقتلاهم، وهي منحازة انحيازًا واضحًا في الكثير من الملفات، فما معنى استضافتهم بحجة الموضوعية؟

وأمّا استضافتهم ذريعة لتوفير مساحة عمل للقناة داخل الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948، فإنّها ذات ذريعة المطبّعين العرب الجدد الذين تشتغل القناة على فضحهم، إذ لا تبرر غايةٌ من هذا النوع جريمةَ التطبيع، خاصّة وأن الجزيرة التي أغلقت في العديد من البلدان، وقالت إنّ الإغلاق لا يؤثّر على عملها، هي بحجمها وخبرتها يمكنها إيجاد البدائل بالتأكيد.

وليس مفهومًا، هذا التلازم الذي يبدو في برنامج الاتجاه المعاكس أخيرًا بين الرغبة في مهاجمة القصور العربي ومتاجرة البعض بالقضية الفلسطينية، وبين استضافة متحدثين صهاينة يشتمون العرب ويعيّرونهم. المؤكد أن فلسطين بقدسها ومسجدها أكبر وأقدس من استخدامها لهذا الغرض، وهو غرض لا يختلف في شيء عن أغراض من تنتقدهم الجزيرة من المتاجرين أو المفرّطين بالقضية الفلسطينية.

وعلى فرض أن لهذا النوع من التطبيع منافع، فإنّ أضراره أكبر من نفعه، ويكفي أن هذا الموضوع مما لم يزل يُستخدم في اتهام الجزيرة بالافتقار للمصداقية، وفي اتّهامها بأنّها كانت فاتحة بوابة التطبيع في الإعلام العربي، هذا فضلاً عن الأضرار الأصلية المبدئية التي سبق عرضها.

الخلاصة.. واجبنا انتقاد أي ممارسة تطبيعية، وحرصنا على الجزيرة يدعونا للقول لها: إنّ مصلحتها لا تتناقض مع واجبنا هذا. فقط فلتعد النظر!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات