الأربعاء 22/مايو/2024

اختطفه الموساد من أوكرانيا.. حكاية المهندس الذي غير السجن ملامحه

اختطفه الموساد من أوكرانيا.. حكاية المهندس الذي غير السجن ملامحه

ملامحه تغيرت، قسمات وجهه لم تعد كما كانت قبل الأسر، يبدو أنّه سابق الزمن وأصبح عجوزاً في شبابه، تفاصيل الألم والمعاناة باتت على وجهه الذي غاب عن الشمس لأكثر من ثماني سنوات متتالية.

وأجمع كل من رأى صور الأسير ضرار أبو سيسي الأخيرة، أنّها تحمل تفاصيل مؤلمة، وتروي حكايات تعذيب وحرمان طويل.

قصة الأسير ضرار تشبه في تفاصيلها أحداث “فيلم سينمائي” طويل ترويه زوجته صاحبة الجنسية الأوكرانية، فاعتقاله لم يكن عادياً؛ بل كان اختطافًا في أوكرانيا حتى كشفت الأيام أنّ الاحتلال هو المدبر الأول لهذه الجريمة.

من هو أبو سيسي؟

ولد ضرار أبو سيسي عام 1969، وهو متزوج من سيدة أوكرانية، وله منها ستة أطفال، وصل إلى أوكرانيا عام 1988 لدراسة هندسة الكهرباء، وحصل على درجة الدكتوراه في هندسة الشبكات الكهربائية، ثم عاد إلى غزة وعمل مديرا تشغيليا لمحطة توليد الطاقة الكهربائية، كما عمل أستاذا محاضرا في جامعة القدس المفتوحة.

أبو سيسي الذي قضى حياته في أوكرانيا ثم عاد إلى قطاع غزة مسقط رأسه للاستقرار، لم يكن يحمل في قلبه إلا حب وطنه وأهله وأطفاله الستة.

حكاية الاختطاف

بعد غياب دام 15 عاما بسبب الحصار والعدوان على القطاع، عاد ضرار رفقة زوجته وأحد أبنائه إلى أوكرانيا بهدف زيارة أهل زوجته وإتمام معاملات رسمية، غير أنه اختفى يوم 18 فبراير/شباط 2011.

فلم يدر في خلد فيرونيكا أبو سيسي، أن يتعرض زوجها المهندس ضرار أبو سيسي مدير تشغيل محطة كهرباء غزة، لـ”عملية اختطاف” في بلدها الذي تعده آمناً، فقد كانت تخشى عليه من القتل أو الاعتقال أو الجرح في بلده المُحتل فلسطين، لكنها تأسفت أن تقع جريمة اختطاف زوجها في بلدها، ولا تزال فيرونيكا، تناضل في غزة وأوكرانيا من أجل حرية زوجها وعودته سالمًا إلى منزله وأطفاله الستة في غزة، رغم مرور ثماني سنوات على اختطافه.

فراق الأحبة

لم يكن يتوقع الزوجان أن تتأخر المعاملات والإجراءات الرسمية وقتا طويلا، ما اضطر فيرونيكا زوجة أبو سيسي إلى أخذ قرار بالعودة إلى غزة عبر المملكة الأردنية الهاشمية بعد 10 أيام، وحدث ذلك فعلاً، وبقي ضرار وحيدًا في أوكرانيا.

صبيحة يوم 18 فبراير 2011، صعد أبو سيسي إلى القاطرة رقم “6” في قطار “63” المتوجه من خاركوف -ثاني أكبر المدن الأوكرانية- إلى العاصمة كييف، للقاء شقيقه يوسف في مدينة أخرى تبعد نحو 500 كم، ويحتاج السفر إليها ساعات طويلة.

“يوسف” القادم من هولندا في ذلك الوقت، ليقابل شقيقه بعد غياب دام 15 عامًا، كان ينتظر بلهفة أن يعانقه ويكحل عينيه برؤيته في موعد وصول القطار إلى محطته الأخيرة، وبعد فترة وجيزة على انطلاق القطار من خاركوف -والكلام لأبو سيسي في رسالة مسربة من سجنه- “توجه إليّ رجلان بزي مدني، وطلبا مني جواز سفري، فسألتهما من تكونان؟ وبأي صفة تطلبانه، رد أحدهما قائلاً: نحن ضباط في الأمن الداخلي الأوكراني، وأبرزا بطاقة تثبت ذلك”.

وطلب أحدهما وكان ذا خِلقة أوكرانية من “ضرار” التوجه معه إلى غرفة فارغة في المقطورة، وادعى أن هناك مشكلة في جواز سفره، وأن إقامته غير قانونية، وعاد أحد الرجلين إلى مقعد “ضرار” وصادر حقيبته الشخصية وأوراقه الثبوتية وحاسوبه وهاتفه النقال، وعند محطة بلطافا توقف القطار، واقتيد إلى الخارج ليفاجأ بـ”استنفار أمني” كبير في المحطة و”جيش” من رجال المخابرات الأوكرانية في انتظاره.

وأدخل “ضرار” في سيارة دفع رباعي كبيرة، ذات زجاج أسود، وحولها عدد كبير من رجال الأمن الأوكراني، وسارت لمدة 5-6 ساعات (وهي المسافة المتوقعة ذاتها للوصول إلى العاصمة الأوكرانية كييف).

حكاية “الموت”

في هذا الوقت وصلت السيارة التي تواجد بها “ضرار” إلى فيلا كبيرة، دخلت إلى “كراج” السيارات وأنزل بالقوة من السيارة، وفُتش بشكل كامل بعد تعريته من الملابس، ومن ثم صعدوا به إلى الأعلى عبر السلالم، ورفعوا بعد ذلك العصبة عن عينيه.

ويضيف أبو سيسي: “حتى تلك اللحظة كنت أعتقد أنني معتقل لدى جهاز الأمن الداخلي الأوكراني (المخابرات)، وبعد أن رفعت العصبة عن عيني، تفاجأت بسبعة من الضباط، لا تبدو عليهم الملامح الأوكرانية، وخاطبه أحدهم بالقول: هل تعرف من نخن (في إشارة إلى عدم إتقان المتحدث للغة العربية)؟”.

أجاب أبو سيسي: نعم، أنتم عناصر من المخابرات الأوكرانية، فابتسم بسخرية هذا الشخص، وكان رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) يورام كوهين، وقال: “نخن جهاز المخابرات الإسرائيلي”.

وقُيّد أبو سيسي بكرسي خشبي، وبدأت جولة تحقيق استمرت 6 ساعات متواصلة، قادها كوهين ومسؤول تحقيق سجن عسقلان الصهيوني أوسكار، والذي يصفه الأسرى بـ”المحقق القذر”، وآخرون من قيادات “الشاباك”.

وتمحورت أسئلة التحقيق بحسب أبو سيسي، حول الجندي الإسرائيلي الأسير لدى المقاومة في غزة آنذاك جلعاد شاليط، وعلاقته بكتائب القسام الذراع العسكري لحركة “حماس”.

وتعرض “ضرار” لتعذيب “وحشي” استمر 5-6 ساعات، حيث ضرب على صدره، ولطم على وجهه بقوة، وأسمع أصوات صراخ وأنين، وترك بعد ذلك وحيدًا في غرفة التعذيب، وجيء بعدها بـ 4 رجال ذوي أجسام قوية قيدوه وعصبوا عينيه، ووضعوا شريطًا لاصقًا على فمه، وأدخلوه في صندوق خشبي يشبه “التابوت” وأغلقوه بإحكام.

حمل هؤلاء الرجال “التابوت” ووضعوه في سيارة تحركت لمدة نصف ساعة تقريبًا، وفق ما جاء في الرسالة، ويضيف: “كنت بكامل وعيي، وبحسب تقديراتي نقلت إلى مطار كييف، وعرفت ذلك من أصوات محركات الطائرات، وأدخل بعد ذلك التابوت في طائرة، هبطت لاحقا في محطة ترانزيت على ما يبدو، ثم واصلت رحلتها، إلى مطار في (إسرائيل)”.

ساعات طويلة مرت على الأسير أبو سيسي داخل التابوت، حاول خلالها التخلص من قيوده والتحرك، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل مرارًا وتكرارًا، وبقي يناجي ربه في صمت، وشريط من الذكريات يمر أمام عينيه.

ويشير ضرار في رسالته إلى أن “الرحلة من محطة الترانزيت التي هبطت فيه الطائرة، وصولاً إلى مطار (تل أبيب) استغرقت نصف ساعة أو 40 دقيقة فقط!”.

وما أن وصلت الطائرة إلى (إسرائيل) أنزل التابوت، وأخرج منه “ضرار”، ووضع في حافلة صغيرة واصلت سيرها لمدة تزيد عن ساعة، وبعد ذلك أنزل من الحافلة، ونقل إلى إحدى الزنازين، وأخبره أحد عناصر “الشاباك” أنه معتقل لدى المخابرات الصهيونية في مركز تحقيق “بتاح تكفا”.

“قبر” عسقلان

ومكث أبو سيسي في مركز “بتاح تكفا” 35 يومًا، حقق معه خلالها كبار القادة العسكريين الصهاينة أمثال: يورام كوهين، ومسؤول ملف شاليط في (إسرائيل) آنذاك عاموس جلعاد، ويوآل، وجاك، وستيفن، وستيف؛ مسؤولو التحقيقات في جهاز الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك”.

ونقل “ضرار” بعد ذلك إلى زنزانة العزل الانفرادي في سجن عسقلان الصهيوني أو ما وصفه في إحدى الرسائل السابقة بـ”القبر المؤقت”، وقال في هذه الرسالة: “من زنزانة هي أصغر من “حمام” أحدكم في بيته، من بين الجدران الكئيبة والقضبان الحديدية أرسل لكم هذه الكلمات لعلها تخاطب فيكم شيئا من الإحساس أو الإنسانية”.

وأضاف شارحًا وضعه في السجن: “هل تعرف معنى أن تبقى في مكان مغلق لا تخرج منه إلا ساعة واحدة في نهار مكبل اليدين والقدمين تحمل أكياس القمامة، لا ترى أحدًا ولا يراك إلا السجان، ثم تعود بعد ذلك إلى قبرك المؤقت تقضي به بقية اليوم لا تعرف نهارًا ولا ليلا، لا جمعة ولا سبتًا، لا صيفا ولا خريفا، سوى ما يصلك من البرد والحر، لا ترى أحدًا من أحبابك، ولا من أبنائك وأهلك، ولا يراك أحد”.

وتعدّ زنازين العزل الانفرادي قبورًا للأسرى؛ نظرًا لافتقارها لأدنى المقومات الإنسانية والصحية وضيق مساحتها، إذ تبلغ مساحتها (1.5 × 2.5) متر، ولا يوجد نوافذ فيها سوى نافذة صغيرة في باب الزنزانة، ولا تدخلها الشمس ولا الهواء، وتكون مشبعة بالرطوبة، وتنتشر فيها الحشرات.

ويعاني أبو سيسي من حالة صحية صعبة، ومشاكل في القلب، واضطراب في ضغط الدم، ومشاكل في العين اليسرى، إضافة إلى انخفاض وزنه حيث وصل إلى ما دون 62 كيلوغرامًا (من أصل 98 كيلوغرامًا قبل اختطافه)، ويشكو بشكل متواصل من الإهمال الطبي.

وترفض سلطات الاحتلال السماح بإدخال طبيب خاص من خارج السجن، لإجراء فحوصات طبية للأسير “ضرار”.

وأجرى “ضرار” ثلاث مكالمات هاتفية مع زوجته منذ اختطافه، أولها كانت في 27 شباط/ فبراير 2011، واقتصرت على التعريف بنفسه وإبلاغهم بمكان اعتقاله في “بيتاح تكفا”، وطلب منهم الاتصال بمحامية إسرائيلية تدعى ميخالو أورجابي.

وقد أصدرت محكمة صهيونية يوم 14 يوليو/تموز 2015 حكما بسجن المهندس ضرار أبو سيسي 21 عاما، بتهمة تطوير صواريخ لمصلحة حركة حماس.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات