الثلاثاء 21/مايو/2024

حماس والمزايدة الجهادية

ساري عرابي

منذ تأسيسها المتزامن مع الانتفاضة الأولى، وتكاد حماس أن تكون القوّة الأكثر مواجهة للاحتلال بالجهاد والمقاومة، فقد كانت الفاعل الأكثر أهمّية في الانتفاضة الأولى إلى جانب حركة فتح، والفاعل الأهمّ والأوسع أثرًا في الانتفاضة الثانية، وظلّت متمسكة بمسعاها الجهادي بين الانتفاضتين.

ثم وبعد فوزها بالانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة، وعلى خلاف الظنّ الذي روّجه خصومها، وكاد بعض أنصارها أن يركنوا إليه، أسّست في غزّة، حيث الجغرافيا الوحيدة التي أمكنها أن تحافظ على حكمها فيها، قاعدة للمقاومة، وخاضت منها سلسلة من المواجهات، كان بعضها حروبًا طاحنة، هذا فضلاً عمّا راكمته من قوّة وقدرات في مسعاها الجهاديّ هناك، وجعْلها المقاومة محور سلوكها، الذي تدور حوله حركتها كلها.

حتمًا اقترفت حماس أخطاء كثيرة، وظلّ من خياراتها ما هو محلّ جدل حتى اللحظة، كمشاركتها في الانتخابات التشريعية، وتشكيلها حكومة بناء على ذلك، وشعارها الجامع بين الحكم والمقاومة، بالإضافة للكثير الذي يمكن قوله في إدارتها لقطاع غزّة، أو في إدارتها لتحالفاتها وعلاقاتها، ولكن بالرغم من كل ما يمكن الاختلاف معها فيه، فإنّها في جملتها، ظلّت فوق المزايدات التي هوجمت بها، ولاسيما مزايدات من إسلاميين، إن كانت حول سياسات لحركة، أو في تصورها للإسلام، أو في ممارستها الجهادية.

في الأثناء أخذ يتصدر المشهد الحركي في ساحة الإسلاميين، ما عُرف بالتيار الجهادي، الذي غلبت عليه نزعة سلفية احتكارية، لم يكن لها أن تعدّ حماس من جملة التيار الجهادي، لاحتساب حماس أولاً على جماعة الإخوان المسلمين التي تقع في دائرة التصنيف السلبيّ “للسلفيين الجهاديين”، وثانيًا لأن وصف الجهاديّ مرتكز اتُّخذ للدلالة على منهج العمل داخل البلاد العربيّة، فقصد به في الأساس التمايز عن أصحاب الخط السلمي أو الإصلاحي، ولم يُقصد به في أصل التسمّي به المواجهة مع القوى الخارجية.

صحيح أن للتيار الجهادي، ممارسة جهادية تستهدف القوى الخارجية، لكن المنطلق في احتكار الانتساب إلى الجهاد كان منشؤه الموقف من الدول العربية وآليات العمل فيها، ومن بعد احتلال العراق في العام 2003، اشتدّ بريق التيار، لقوّة فاعليته هناك، وطبيعة خطابه الذي يتّسم بالقطع والحدّية، ولانتشاره إلكترونيًّا، وبالتدريج مع اتساع الإعلام الفضائي، ثم تطور الاتصال الرقمي، توسّع التيار على مستوى الجماهير، وتسلل إلى جمهور الحركات الإسلامية التي يتّخذ منها أساسًا موقفًا سلبيًّا، يصل في بعض تجلياته إلى التكفير.

ينفتح جمهور حماس بطبيعته على مزايدات الآخرين الإسلاميين، فمن جهة لا تتخذ الحركة خطًا تثقيفيًّا منغلقًا أو حديًّا كما هو شأن جماعات إسلامية أخرى، ومن جهة ثانية تغلب النزعة العملية على الحركة كما هو شأن الجماعات ذات الصبغة الإخوانية، فلا تقيم كبير وزن للجانب الثقافي، فيظلّ جمهورها عرضة إما للمؤثرات الخارجية أو لمزاجيات داخلية متباينة.

ومع الاختيارات السياسية للحركة التي يمليها الظرف المعقّد في فلسطين، وتحوج إلى تفسير يبدو بدوره معقّدًا لارتكازه على الموازنات بين المصالح والمفاسد، واستناده إلى حسابات الضرورة والحاجة، قد يجد بعض من جمهورها في الخطاب القطعيّ شيئًا من جاذبية.

أصل الخطاب القطعيّ هذا تصوّر يستبطن حلول الحقّ في أصحابه، فهو ناشئ عن حركة تصحيحيّة تستند إلى تراث جدليّ تستدرك به على عموم الأمّة في كل شيء، وترى في نفسها التجسيد الوحيد للحقّ الذي كان عليه السلف من أهل القرون الأولى.

هذا التصور الذي يتوهّم الطهورية، والشعور بتجسيد الحقّ، وتلك النزعة التصحيحية تؤدّي إلى انتفاش يفضي إلى سلسلة لا تنتهي من المزايدة الداخلية، المزايدة بالتبديع، والتضليل، والتكفير، بحسب الغالب على كل تجلّ من تجليات هذه الحالة العامّة، وهذه المزايدة تتمظهر في تشظّيات داخلية، يخرج فيها التلميذ على شيخه، ويزايد عليه فيبدّعه أو يكفّره، كما تخرج فيه جماعات هذه الحالة على من يقاسمونها ساحتها، إن كانت علمية أو جهادية أو سياسية، وكلّها تخرج على الأمّة.

ولمّا كان الأمر كذلك، سهل استخدامها، فاستُخدم بعضها صراحة للمحاماة عن الحاكم والأنظمة بصفتهم أولياء أمور، وعلى نحو مبتذل، وضدّ كل محاولة تجمعيّة للإصلاح السياسي، واستخدم نقيضها المنبثق عن الحالة نفسها لتدمير الساحة الإسلامية، وإفساد جهاد الشعوب وثوراتها، كما في التجلّي الذي عُرِف بـ “داعش”.

في المقابل يغلب على التدين في أوساط حماس، ذلك النمط الشعبي المنبثق عن طبيعة المجتمع الفلسطيني، والمتصل بتراث الأمّة وأجيالها المتعاقبة، صحيح أنّه تعرض لجرعات أدلجة وتسييس مضاعفة، وتأثّر بنزعات سلفيّة وجدت من يعزّزها داخل حماس، إلا أنه ظلّ الأقرب للناس، لانبثاقه عنهم طبيعيًّا دون تقصد، إلا أن حماس فرّطت في التنظير لهذا النمط من التديّن، الذي يقترب من شعبها، ويخدم قضيتها وجهادها في فلسطين.

ثمّة عامل آخر خدم جاذبية السلفية الجهادية، ممثلة بنسختها الأعنف “داعش”، وهو بريق القوّة والإنجازات السريعة، والتي جعلت من حكم حماس في غزة عرضة لسخريتها المستمرّة، فضلاً عن استهدافها حماس بالتكفير وجملة اتهامات في إقحام فجّ على سياقات “داعش” التي لا شأن لحماس بها.

اليوم تنهار تلك القوّة، ويتأكّد أن شعار “باقية وتتمدّد” ليس قدر المسلمين ولا نهاية التاريخ، وإذا كان ذلك النمط من التصوّر للإسلام مستندًا للقوّة قد أدّى إلى فضّ الحواضن الشعبية عن “الجهاديين”، في تجربة مكررة مع الأسف، كما حصل في الحالة العراقية سابقًا، وعرف لاحقًا في سوريا، وأدّت ممارسته المستعلية لتدمير الثورات وجهاد الشعوب، فإنّ حماس، ورغم كل ما يمكن قوله في أخطائها السياسية والخطابية، وممارستها الإدارية في غزّة، تظلّ بنمط تدينها وفهمها للإسلام، وممارستها الجهادية الأقرب للناس، وقد ظلّت جهاديًّا على ثغرها تمارس جهادها أو تعدّ له.

ما ينبغي قوله أخيرًا إن حبل الغلوّ قصير ولكنّه خطير ومدمّر، وينبغي ألا يخفى ذلك خلف ستار القوّة الراهن، فهو واه أمام الحقيقة، ومع ذلك فالأفكار والممارسات المنبثقة طبيعيًّا عن مجتمعاتها، تحتاج من ينظّر لها، ويفكّر دائمًا فيها، وهو ما تحتاج إليه حماس.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات