الثلاثاء 21/مايو/2024

الأسرى.. حكايات خاصة ومعرفة قاصرة!

"ساري عرابي/ خاص لـ""المركز"""

في آب من العام 2008، وبعد عملية تنكيل استهدَفَت بها وحدات قمع من مصلحة السجون الصهيونية القسم الذي كنت أعيش فيه داخل معتقل عوفر؛ قُمِعْتُ إلى سجن إيشل في بئر السبع، وكانت فرصة لأن ألتقي أحد إخواني وزملائي وأصدقائي في جامعة بيرزيت، القائد القسامي محمود شريتح، وأحد قادة الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، وكنا لم نلتقِ منذ اعتقال كلينا في العام 2001.

كنتُ اُعتقل وأخرج، بينما محمود ظل في السجن محكومًا بسبعة مؤبدات، وكانت اعتقالاتي تقتصر على ما كان يعرف بالمعتقلات التي كان يديرها سابقًا جيش العدو قبل أن تنتقل إدارتها إلى “مصلحة السجون”، أما محمود فظل يتنقل بين ما يعرف بالسجون المركزية.

 لا تبدو المعرفة المجتمعية بأوضاع الأسرى في أحسن حالاتها، ويفترض أن يكون هذا غريبًا بالنظر إلى التجربة الفلسطينية الواسعة مع الاعتقال، ولكن ومن بعد انتهاء الانتفاضة الأولى، تراجعت هذه المعرفة، كما تراجع التضامن المجتمعي مع الأسرى وعائلاتهم، وعلى العكس تنتشر تصورات زائفة جدًّا عن الأسرى وأوضاعهم، سواء كانوا أسرى أم أسرى محررين.

وصل محمود إلى سجن إيشل بعد قمعي إليه بفترة وجيزة، ولم يكدر لحظات العناق الحارة، إلا توقعاته التي عاجلني بها، حينما أخبرني بأنه -على الأرجح- لن يمكث طويلاً في “إيشل”، وبالفعل ظلت حقيبة محمود كما هي، فهي خزانته الدائمة المتنقلة معه، في كل “بوسطة”، وفي كل “معبار”.

صحيح أن محمود كان هادئًا دائمًا، وكان عظيمًا بالتأكيد حينما قاد جانبًا من العمل المقاوم في الضفة الغربية أثناء انتفاضة الأقصى، ولكنه ظلّ قادرًا على إدهاش أمثالي ومفاجأتهم، فمثلي يعرف جيدًا معنى حرمان الأسير من الاستقرار، لأنني أولاً أسير لسنوات سابقة، ولأنني ثانيًا وفي هذا الاعتقال تحديدًا تسلطت عليّ إدارة سجن عوفر بتنقيلي المستمر بين أقسام السجن الواحد.

أما محمود فتتصاغر أمامه هذه التجربة المتواضعة، وفي كلمة مباشرة، ومعتادة، ولكنها صادقة ودقيقة وغير مبتذلة، كان جبلاً شامخًا، وإنسانًا صلبًا بهدوء ساحر، ودون أن أحاول تجريده من جبلته الإنسانية التي يمتزج فيها الضعف بالقوة، فالأيام القليلة التي مكثناها معًا لم تتح لي وعلى نحو كاف التقاط بريق الحزن النابع من عينيه البليغتين، وإن كنت ومنذ أن رأيته قد شعرت بذلك الدفق الغامض الذي تفيض به نفوس الأسرى المحكومين لسنوات طويلة فيقول لك كل شيء دون أن تراه. لقد طوّر هؤلاء المعتقلون لغة موغلة في البلاغة، وموغلة في الصمت في الوقت نفسه.

لكن كان يمكنني أن أدرك، أنه انتصر على عدوّه في محنة القمع والحرمان من الاستقرار، وهو انتصار لا يمنع العدوّ من ممارسة أذاه، ولكنه يرفع نفس الأسير على أذى العدو، وكنت أسأل نفسي هل هو شيء منحه الله إياه أصلاً، أم هي معرفة انفجرت في داخله طوال اعتقاله.

حينما بدأ العدو حملته القمعية المتجددة على الأسرى في سجني نفحة والنقب اليوم الخميس 2/شباط، تذكرت محمود، وما هو إلا واحد من آلاف الأسرى، فثمة حكاية عامة، وثمة حكاية خاصة لكل أسير، وثمة حكايا تستحيل على لغاتنا التي نتداول بها أحاديثنا، وإنما هي حكايا بنتُ تجربتها، ولها لغتها التي انبثقت معها، من نوع ذلك البريق، وذلك الدفق، وتلك الطوية التي لا يقدر على حملها حتى ذلك البريق، وذلك الدفق.

يمكننا أن نستعرض الآن، مئات الأسماء لأسرانا، ولكن هل يمكننا أن نتخيل آلاف الحكايا والحوادث لكل اسم من تلك الأسماء، وأن نستعيد على نحو صادق أحاسيسهم في كل حكاية من تلك الحكايا؛ أحاسيسهم اليومية، أحاسيس كل ثانية، أحاسيس الترقب والانتظار والتوتر المقيم؟!

بالنسبة للفصائل، ومع أن أبناءها، هم الذين يخوضون تجربة الاعتقال المستمرة والمفتوحة، وبمراراتها الهائلة، فإنها لم تتمكن من بعد تأسيس السلطة على تطوير أدواتها لمواجهة النتائج المترتبة على قيام السلطة وعلى سياساتها سالفة الذكر، وهذا يمكن فهمه، بالنظر إلى أن هذه الفصائل باتت مستهدفة بدورها، ومحرومة من مجالات العمل العام، ولكن لا يمكن فهم القصور المستمر في المجالات المعرفية، بما في ذلك إثارة الوعي العام.

كيف واجه كل أسير الاقتحامات الليلية التي مرّت عليه مئات المرات؟ والتفتيش الوحشي لغرفته وأغراضه؟ والتفتيش العاري؟ والاقتحامات المصحوبة بالغاز والضرب والطلقات الحارقة؟ ومصادرة الأغراض؟ والعقاب بالانفرادي والزنازين؟ والتنقيل المستمر بين السجون؟ والحرمان من زيارات الأهل؟ والحرمان من إدخال الأغراض؟ والحرمان من الكنتينا؟ والحرمان من العلاج؟!

هذه فقط بعض المواقف التي يختزن إزاءها كل أسير فيضًا من المشاعر، ومئات الحكايا، وهو في ذلك كله مطلوب منه إفساد إجراءات السجان، بالصمود والتعالي النفسي، بمعنى أن الأسر ميدان نضال يومي متجدد، حتى لو كان النضال مفروضًا على الأسير، ومعاناة الأسير لا تقتصر على مصادرة حريته، فالإجراءات العقابية على مدار اللحظة، ويمكن أن نتخيل أثرها حينما يكون حديثنا عمن يقضون عقودًا داخل الأسر!

في المقابل، لا تبدو المعرفة المجتمعية بأوضاع الأسرى في أحسن حالاتها، ويفترض أن يكون هذا غريبًا بالنظر إلى التجربة الفلسطينية الواسعة مع الاعتقال، ولكن ومن بعد انتهاء الانتفاضة الأولى، تراجعت هذه المعرفة، كما تراجع التضامن المجتمعي مع الأسرى وعائلاتهم، وعلى العكس تنتشر تصورات زائفة جدًّا عن الأسرى وأوضاعهم، سواء كانوا أسرى أم أسرى محررين.

وبالرغم من الدور المهم الذي تقوم به السلطة في توفير الضمان المادي للأسرى، فإنه ينقلب على صعيد المعرفة العامة إلى ذلك النوع من التصورات الزائفة، وذلك لأن الإسناد المادي، لا يأتي في سياق نضالي أشمل وأوسع، إذ إن السياسات المتنوعة التي تمارسها السلطة، اقتصاديًّا وثقافيًّا وأمنيًّا وغير ذلك، ساهمت إلى حدّ كبير في تجريف الوعي العام، بمجمل القضايا الوطنية، ومن أهمها قضية الأسرى.

بالنسبة للفصائل، ومع أن أبناءها، هم الذين يخوضون تجربة الاعتقال المستمرة والمفتوحة، وبمراراتها الهائلة، فإنها لم تتمكن من بعد تأسيس السلطة من تطوير أدواتها لمواجهة النتائج المترتبة على قيام السلطة وعلى سياساتها سالفة الذكر، وهذا يمكن فهمه، بالنظر إلى أن هذه الفصائل باتت مستهدفة بدورها، ومحرومة من مجالات العمل العام، ولكن لا يمكن فهم القصور المستمر في المجالات المعرفية، بما في ذلك إثارة الوعي العام.

أذكر ذات مرة خطيب جمعة، قال عن أوضاع الأسرى داخل الأسر كلامًا خاطئًا تمامًا، وأذكر عن قريب ندوة أكاديمية فاجأتني بجهل طلاب الجامعة بأوضاع الأسرى، أما المعرفة المجتمعية الزائفة فهي في وجهي كل يوم، ومحيطة بي.

يعيدنا ذلك إلى واجباتنا، وما أكثر المواقع التي يمكن الانطلاق منها لبث المعرفة حول قضية الأسرى، ولاستعادة التضامن المجتمعي مع الأسرى، ولكن في طليعة ذلك كله، تظل منابرنا ومؤسساتنا الثقافية والإعلامية التي ينبغي أن تكون على قدر التحدي والمواجهة، في ظل انغلاق السبل الأخرى في الميدان.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات