الثلاثاء 21/مايو/2024

في مدح فصل رأس العربي عن جسده

د. صالح النعامي

على الرغم من أن الحدث لم يحظ بأي اهتمام إعلامي عربي تقريباً، إلا أن منح وحدة “سييرت متكال”، أشهر وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، أواخر الأسبوع الماضي، “وسام البطولة” في احتفالٍ في مقر هيئة الأركان في تل أبيب، يحمل دلالات خاصة، فبدون أن يقدم تفاصيل، عزا رئيس هيئة أركان الجيش الصهيوني، جادي إيزنكوت، منح هذه الوحدة التي تتبع شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) الوسام إلى “عمليات جريئة”، نفذتها خلف الحدود، وفي دول “عدو” عديدة.

وقبل ثلاثة أشهر، منح الرئيس الإسرائيلي، روفي ريفلين، عناصر في جهاز “الموساد” أوسمةً لدورهم في تنفيذ عمليات خلف الحدود. وسبق لرئيس هيئة أركان الجيش السابق، بني غانز، أن تحدّث، في مطلع العام 2014، عن عشرات العمليات التي تنفذها وحدات إسرائيلية أسبوعياً خلف الحدود.

وحسب تسريبات إسرائيلية؛ يضطلع سلاح البحرية، ولاسيما وحدة الغواصات، بدور كبير في جمع المعلومات الاستخبارية عن أهدافٍ في لبنان ومصر (ميكور ريشون، 5-2-2016). وواضح أن العمليات الميدانية التي تنفذها “إسرائيل” على حدود الدول العربية، أو في عمقها، تهدف إلى جمع معلوماتٍ استخباريةٍ عن أهداف محددة، أو أنها ترمي إلى تدشين بنى تقنية خلف الحدود، لتحسين قدرة “إسرائيل” على التجسس الإلكتروني، سواء عبر التصوير أو التنصت.

يأتي تكثيف العمل الاستخباري الإسرائيلي في عمق العالم العربي، في هذه الأوضاع تحديداً، في إطار سعي “إسرائيل” للاستعداد لمواجهة تبعات التحولات في العالم العربي؛ على اعتبار أن المعلومات الاستخبارية تعد المتطلب الأساس لبناء بنوك الأهداف التي يمكن ضربها مستقبلاً، في حال كانت هناك حاجة لذلك.

فحسب الرؤية التي عبّرت عنها محافل التقدير الاستراتيجي في “تل أبيب”، ينقسم العالم العربي إلى ساحتين؛ فساحة تحمل التحولات التي تشهد حالياً في طياتها مخاطر مباشرة على الأمن الإسرائيلي، وساحة ترتبط دولها بعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ أو تعاون سرّي، لكن يمكن أن تكون عرضةً مستقبلاً، لتطوراتٍ تجعلها مصدراً لتهديدات مباشرة، وغير مباشرة، على “إسرائيل”؛ فمثلاً: حسب المنطق الإسرائيلي، قد تفضي التحولات التي تشهدها سورية حالياً إلى مآلاتٍ تزيد من مخاطر تحول هذا البلد، أو أجزاء منه، إلى قواعد للانطلاق ضد “إسرائيل”.

وفي المقابل، فإن بلديْن يقيمان علاقاتٍ دبلوماسيةٍ، ويرتبطان بشراكةٍ استراتيجيةٍ مع الكيان الصهيوني، مثل الأردن ومصر، يمكن أن يتحوّلا مستقبلاً من مصادر التهديد على الأمن الإسرائيلي.

من هنا، لم يكن مستهجناً أن يفسر المعلق العسكري الإسرائيلي، أمير أورن، دعوة وزير الحرب، موشيه يعلون، للاستعداد لعودة الجبهة الشرقية، وشروع “تل أبيب” ببناء جدار على طول الحدود مع الأردن على أنه تخوف إسرائيلي من إمكانية حدوث تحولاتٍ تفضي إلى حدوث تغييراتٍ على طابع الحكم هناك، مع كل ما ينطوي عليه هذا التحول من تغييرٍ على نمط العلاقة القائم حالياً بين “تل أبيب” وعمّان (هآرتس،17-7-2015).

المفارقة أن المؤشرات على تعاظم الأنشطة الاستخبارية الإسرائيلية في عمق العالم العربي تأتي في وقتٍ بات التوسع في الحديث عن عمق التعاون والتنسيق بين “إسرائيل” والدول العربية لازمةً، يحرص رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، أخيراً، على إقحامها في خطاباته للتدليل على “إسهام” جهوده السياسية والدبلوماسية في تحسين مكانة الكيان الصهيوني الإقليمية.

ويمكن الافتراض أن بعض الدول العربية التي قصدها نتنياهو كانت، في الوقت نفسه، ساحةً لعملياتٍ سريةٍ نفذتها الوحدات الإسرائيلية الخاصة التي يُغدق جنرالاته عليها الأوسمة، فتصبح الجهود السياسية والعمل الدبلوماسي السري الهادف إلى استغلال الطاقة الكامنة في التقاء المصالح الآني بين “تل أبيب” ودولٍ عربية مكملاً للعمل الاستخباري والأمني، الهادف إلى التحوط للمخاطر التي قد تشكلها هذه الدول مستقبلاً.

لكن نتنياهو لم يتحدّث عن نمطٍ آخر من جهوده الدبلوماسية التي تفضح الانتقائية في تفسيره وتوظيفه لالتقاء المصالح مع بعض الدول العربية، حيث تجاهر “إسرائيل” برفضها حصول دول الخليج على سلاح أميركي متقدم، كما أن علاقاتها الحميمة مع الأردن لم تحل دون تحرّكها لإحباط توجه أميركي لتزويد الأردن بطائرات بدون طيار، خشية أن تقع هذه الطائرات في أيدي “جهات متطرفة” (معاريف، 4-7-2015).

تغطي الابتسامات العريضة التي يوزعها المسؤولون الصهاينة في اللقاءات السرية الحميمة مع المسؤولين العرب على الجهود الصهيونية الهادفة إلى بناء بنوك الأهداف في البلدان التي يمثلها هؤلاء. وقد هلك، الأسبوع الماضي، مئير دغان رئيس الموساد الأسبق، الصهيوني الذي تمثل سيرته طابع التعاطي الكلاسيكي الصهيوني مع العرب، والذي يجمع بين غاية التوحش والدبلوماسية الناعمة.

ولم تجد النخب الصهيونية التي رثت دغان، وأثنت على “إنجازاته”، سوى اقتباس ما قاله عنه يوماً أستاذه وقائده أرئيل شارون، عندما برّر تعيينه رئيساً للموساد، حيث قال: “يجيد دغان فن فصل رأس العربي عن جسده”، وكان يقصد الفترة التي عمل فيها دغان تحت إمرته في غزة، مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث كان يقتل ضحاياه من الفلسطينيين بسكين ياباني “مشرط”. لكن دغان برع، أيضاً، في منصبه الأخير، في اتصالاته الصامتة، في تحسين العلاقات السرية مع دولٍ عربية كثيرة.

قصارى القول، المستغيثون بـ”إسرائيل” كالمستغيث من الرمضاء بالنار.

* خبير فلسطيني في الشأن الصهيوني

المصدر: صحيفة العربي الجديد

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات