الأربعاء 22/مايو/2024

تقدير استراتيجي: مستقبل العلاقات التركية – ”الإسرائيلية“

تقدير استراتيجي: مستقبل العلاقات التركية – ”الإسرائيلية“

ملخص:

بعد خمسة أعوام ونصف من القطيعة الديبلوماسية بين تركيا ودولة الاحتلال على خلفية الاعتداء على سفينة مافي مرمرة Mavi Marmara Ship وسقوط عشرة شهداء أتراك، عادت مجدداً الأحاديث عن إمكانية تطبيع العلاقات بين الطرفين، هذه المرة عبر تسريبات إعلامية إسرائيلية واعتراف تركي بحدوث تقدم ما في المفاوضات بينهما.

تطرح هذه الورقة عشرة محددات للعلاقات التركية الإسرائيلية، وتظهر العديد من الظروف والمحفزات التي تدفع باتجاه تطبيع العلاقات الديبلوماسية التركية الإسرائيلية، كما تشير إلى أنه ما تزال هناك العديد من العقبات في وجهها.

ويبدو أن هناك سيناريوهين محتملين للعلاقة بين الطرفين:

أولهما وهو المرجح: بلورة اتفاق يعيد العلاقة الديبلوماسية (إذا ما بقيت البيئتان الدولية والإقليمية على حالهما) والوصول إلى حلّ مقبول للطرفين بشأن تخفيف الحصار عن غزة بما يبدو انتصاراً تركياً ودون أن يظهر في التفسير الإسرائيلي كسراً للخطوط الحمراء.

والسيناريو الثاني: فشل المحادثات الحالية في الوصول إلى اتفاق بانتظار حدوث تغيير في البيئات الإقليمية والدولية لمصلحة أيّ من الطرفين.

ولذلك، فإن المطلوب هو تعزيز الموقف التركي بشأن رفع الحصار عن غزة، وبما يمنع من تفريغ هذا الموقف من محتواه، وتعزيز العلاقات الفلسطينية التركية، بما يقوي الوضع التركي في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأمريكية.

أولاً: تمهيد:

تمتد العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال على مدى عشرات السنين، حيث كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بها سنة 1949، كأول دولة مسلمة تفعل ذلك . ثم، وبعد انضمام تركيا لحلف شمال الأطلسي North Atlantic Treaty Organization سنة 1952، تعمقت العلاقة بينهما أكثر خصوصاً في المجالين العسكري والأمني، نتج عنها توقيعهما —مع إثيوبيا— الاتفاق الإطاري أو حزام المحيط The Peripheral Pact Treaty سنة 1958 .

وبعد فترات من المد والجزر في العلاقات الثنائية، كان الانقلاب العسكري في تركيا سنة 1980 نقطة تحول في هذه العلاقات التي تسارعت وتعمقت وتجذرت في مختلف المجالات، وشهدت في بداية التسعينيات فترتها الذهبية، التي وصلت لذروتها بزيارة رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر Tansu Çiller لـ”إسرائيل“ سنة 1994، ثم زيارة الرئيس سليمان دميريل Süleyman Demirel لها سنة 1996.

وقد وقّع الطرفان سنة 1996 تحديداً عشرات الاتفاقيات في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، أهمها تدريب الطيارين الإسرائيليين في تركيا، وتطوير الدبابات والمقاتلات التركية في ”إسرائيل“، وتواجد مقاتلات إسرائيلية على الأراضي التركية، فضلاً عن تعميق مستوى التعاون الاستخباري على مستوى الأجهزة الرسمية وتبادل المعلومات، وتواجد مراكز تنصت وإنذار مبكر على الأراضي التركية، تتجسس عبرها ”إسرائيل“على بعض دول الجوار ومنها العراق وسورية .

ولم يؤدِّ وصول حزب العدالة والتنمية Justice and Developement Party (AKP) ذي الجذور الإسلامية —على مستوى قياداته وليس على مستوى برنامجه— للحكم في تركيا سنة 2002 إلى تدهور العلاقات بين البلدين، بل استمر التطور فيها وحصلت زيارات ديبلوماسية متبادلة على أعلى مستوى بين الطرفين، أهمها زيارة كل من وزير الخارجية التركي حينها عبد الله غول Abdullah Gül ثم رئيس الوزراء وقتئذ رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdoğan لـ”إسرائيل“ سنة 2005، والتي لاقت ترحيباً إسرائيلياً كبيراً .

وبالتوازي مع العلاقات الاقتصادية المتطورة باضطراد واضح بين الطرفين، حاولت تركيا لعب دور الوسيط بين ”إسرائيل“ ودول عربية وإسلامية مثل سورية والباكستان، قبل أن تتدهور علاقاتها مع دولة الاحتلال على إثر العدوان على غزة سنة 2008، والتي عدَّته تركيا طعنة في ظهرها، وخيانة لجهدها المبذول على جبهة العلاقات السورية – الإسرائيلية، والتي رعت تركيا فيها مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين .

لاحقاً، مرت العلاقات الثنائية بعدة منعطفات وأزمات، مثل حادثة منتدى دافوس Davos Forum الشهيرة في أيلول/ سبتمبر 2009 ، وأزمة إهانة السفير التركي في تل أبيب في كانون الثاني/ يناير 2010 ، حتى وصلت الذروة بالاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة والتي انخفضت بعدها العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين على إثرها إلى أدنى مستوياتها واستمرت كذلك حتى الآن.

ثانياً: محددات العلاقة مع ”إسرائيل“:

وقبل تحليل الوضع الحالي ومحاولة استشراف المستقبل، ينبغي الوقوف على المحددات التي شكلت وتشكل إطار علاقة تركيا في عهد العدالة والتنمية بدولة الاحتلال، وأهمها:

أولاً: البناء على العلاقة الممتدة بين الطرفين على مدى عشرات الأعوام، وعدم القدرة على (وربما غياب النية لـ) إحداث تغييرات جذرية ومباشرة فيها.

ثانياً: مراعاة الأوضاع السياسية في البلاد حين تسلم الحزب الحكم، وخصوصاً وصاية المؤسسة العسكرية التركية على المشهد السياسي، وهي صاحبة العلاقات المتميزة مع ”إسرائيل“.

ثالثاً: وضع العلاقة تحت بند الخطوط العامة للأمن القومي التركي ومصالح تركيا التي أعاد الحزب الحاكم تفسيرها وصياغتها ولم ينقلب عليها بشكل دراماتيكي.

رابعاً: نظرية الحزب في ضرورة تطويع السياسة للاقتصاد في السياسة الخارجية، أي “الارتباط المعزز” بينهما، في ظروف العلاقات الطبيعية مع الدول، والفصل (فك الارتباط) بينهما في فترات التوتر، أي الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية على الرغم من الخلافات السياسية، وهو ما فعلته تركيا بعد أزمة سفينة مرمرة .

خامساً: تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أيّ طرف، وصعوبة تحركها منفردة دون شركاء إقليميين، بغض النظر عن مدى ارتفاع سقف الخطاب.

سادساً: اعتبار العلاقة مع دولة الاحتلال جزءاً من منظومة علاقات تركيا الغربية —الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي— ومفتاحاً لنيل ثقة هذه الأطراف من خلال العلاقة الجيدة، أو على الأقل غير المتأزمة، معها.

سابعاً: حاجة تركيا لـ”إسرائيل“ في عدة مجالات، وتحديداً التعاون الأمني وتطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية، خصوصاً في أعوام حكم العدالة والتنمية الأولى.

ثامناً: مراعاة التدرج في العلاقة، بحيث تنعكس قوة وضع الحزب الداخلي على العلاقة مع دولة الاحتلال، تخففاً من بعض الالتزامات والروابط، بشكل هادئ وبطيء لا يؤدي إلى أزمات حادة معها ولا يستثير الغرب ضدّ أنقرة.

تاسعاً: عدم تجاوز السقف العربي – الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والالتزام بالحل السياسي لها وفق رؤية “حلّ الدولتين” Two – State Solution، والمبادرة العربية للسلام Arab Peace İnitiative، بل والدعوة لإشراك حركة حماس في عملية التسوية .

عاشراً: عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي للفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية، لعدم الإضرار بالعلاقة مع دولة الاحتلال قبل الأزمة معها.

وبناء على هذه المحددات وفي ضوئها نسج حزب العدالة والتنمية علاقات تركيا مع ”إسرائيل“ على مدى أعوام، حتى تأزمت العلاقة معها على عدة مراحل كما ورد آنفاً. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية لم تكن داعمة لفكرة أسطول الحرية ورحلته لكسر الحصار عن قطاع غزة سنة 2010، إلا أن الاعتداء عليه وقتل عشرة مواطنين أتراك (تسعة مباشرة، وواحد بعد أشهر من العلاج تأثراً بجراحه) وضعها في موقف الذود عن سيادة البلاد ومواطنيها.

ولذلك فقد اتخذت تركيا عدداً من الإجراءات العقابية تجاه ”إسرائيل“، مثل سحب السفير التركي وطرد السفير الإسرائيلي، وإلغاء مناورات عسكرية ثنائية مبرمجة مسبقاً، وإلغاء صفقات سلاح ومنها شراء طائرات بدون طيار منها، فضلاً عن تجميد عشرات الاتفاقيات في مختلف المجالات معها .

لاحقاً، أعلنت تركيا شروطها الثلاثة لعودة العلاقات إلى سابق عهدها مع ”إسرائيل“، والتي تمثلت في الاعتذار عن الاعتداء، ودفع تعويضات مادية لعائلات الشهداء العشرة، وكسر الحصار عن قطاع غزة.

ثالثاً: المحفزات والعقبات:

بدأت اللقاءات الثنائية بهدف تطويق الأزمة بين الطرفين مبكراً جداً، حيث التقى وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو Ahmet Davutoğlu سراً بوزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر Binyamin Ben-Eliezer في بروكسل في 1/7/2010، دون أن يفضي ذلك اللقاء إلى نتيجة إيجابية .

تتالت اللقاءات بين مسؤولي البلدين وتكرر الفشل في التوصل لاتفاق ما، بسبب إصرار تركيا على شروطها الثلاثة ورفض ”إسرائيل“ لها، حتى حملت سنة 2013 جديداً باعتذار بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu من أردوغان، بضغط من الرئيس الأمريكي باراك أوباما Barack Obama، في شهر آذار/ مارس، فيما بقي الشرطان الآخران دون تنفيذ حتى اليوم .

بعد هذا الاعتذار تسارعت اللقاءات بين الطرفين، فاجتمعا في أنقرة في أبريل/ نيسان ثم في القدس في أيار/ مايو من سنة 2013، ثم توصلا إلى مسودة اتفاق لم يكتب له الخروج إلى حيّز التنفيذ .

وافقت ”إسرائيل“ سنة 2014 على تعويض أسر الضحايا بمبلغ 20 مليون دولار، دون أن تنفذ ذلك، والتقى الطرفان مرة أخرى في حزيران/ يونيو 2015، قبل أن تسرّب وسائل الإعلام العبرية أخباراً عن “اتفاق قد تمّ فعلاً” بين الطرفين . بينما بدى الموقف التركي في المقابل مرتبكاً بعض الشيء، فتذبذت تصريحات المسؤولين الأتراك بين الإقرار بوجود محادثات ونفي توقيع اتفاق نهائي، بين الحديث عن ثبات الموقف التركي من سياسات ”إسرائيل“ واعتبار “الشعب الإسرائيلي صديقاً للشعب التركي” ، بين الرغبة في التقارب باعتباره مصلحة “للبلدين والمنطقة”  والتباهي بأن تركيا هي أول دولة “ترغم إسرائيل على الاعتذار” ، بين التأكيد على شروط أنقرة الثلاثة في بعض التصريحات وذكر صيغة “تخفيف الحصار” بدل “رفع الحصار” في بعضها الآخر .

ما يميز هذه الجولة من المفاوضات بين الطرفين مجموعة من العوامل المحفزة، منها ما هو متعلق بالظرف الإقليمي – الدولي الدافع للطرفين نحو التقارب، ومنها ما هو خاص بكل منهما على حدة، ومنها ما هو مرتبط بما سبق من مباحثات، أهمها:

•  عدم ممانعة تركيا عودة العلاقات من الناحية المبدئية وربطها الأمر بشروط إجرائية.

• تضرر الطرفين من فترة انقطاع العلاقات الديبلوماسية، فتركيا، وفق الحسابات البراجماتية الإقليمية، فقدت القدرة على لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية بعد تردي علاقاتها مع كل من تل أبيب والقاهرة، بينما حال الفيتو التركي دون مشاركة ”إسرائيل“ في بعض أنشطة ومناورات حلف الناتو، فضلاً عن أن ”إسرائيل“ فقدت صداقة دولة إقليمية كبيرة، في فترة تمر فيها المنطقة بتحولات سياسية – اجتماعية ضخمة تمتاز بسيولة كبيرة ونتائج غير متوقعة.

•  الانتهاء منذ فترة طويلة من الشرطين الأولين، ووقوف المحادثات عند الشرط المتعلق بحصار غزة.

•  رغبة الطرفين في ترميم العلاقة بينهما لطي صفحة الخ

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات