السبت 27/أبريل/2024

العالقون

العالقون

صحيفة البيان الإماراتية

ستة عقود مرت على نكبة فلسطين جرى خلالها تعريف الفلسطينيين بمسميات ومصطلحات كثيرة. وتؤكد المتابعة أن هذه العملية التوصيفية لم تنفصل عن أجندات ومرامي القائمين بها، بحيث يمكن إيجاد صلة وثيقة بين المصطلح المستخدم وبين تكييف مستخدمه لطبيعة القضية الفلسطينية ذاتها.

نود القول إن مسميات الفلسطينيين غالباً ما وظفت في السجال الأكبر بين أطراف هذه القضية على الصعد التاريخية والقانونية والسياسية، بل والحضارية الأشمل. وبناء على هذا المنظور نستطيع تفسير امتناع كافة المصادر الإسرائيلية عن الإشارة لفلسطيني القدس بمفهوم المواطنة والمواطنين والاستعاضة عن ذلك بوصفهم ب «المقيمين».

وبالمنطق ذاته، تصف هذه المصادر أبناء المجتمع الفلسطيني الواقع تحت سيطرتها منذ 1948 بأنهم «عرب “إسرائيل”»، مجردة إياهم من البعد التاريخي الوطني الذي ينسبهم حصرياً إلى فلسطين وشعبها الأصيل.

وبالمقابل، لم تكن الحركة الوطنية الفلسطينية بغافلة عما تستنبطه المصطلحات من حمولات ومضامين قانونية وسياسية توجيهية وتعبوية على مضمار الصراع مع الصهيونية و”إسرائيل” والمحازبين لهما.. ومن هنا كان لهذه الحركة ومازال مصطلحاتها ومفاهيمها التوضيحية المغايرة.

في إطار هذا التدافع المفاهيمي، عرفنا الفلسطينيين بأوصاف باتت تعز عن الحصر.. فهم المواطنون الأصليون؛ اللاجئون؛ النازحون؛ أبناء الداخل أو الخارج؛ فلسطينيو أو عرب 1948؛ عرب “إسرائيل”؛ التابعون لمنظمة التحرير ومواطنو سلطة الحكم الذاتي؛ المقاومون؛ الإرهابيون.. الخ.

ومع أن تعددية على هذا النحو تكفى وزيادة للتعريف بأحوال الشعب الفلسطيني، إلا أن المستجدات النكدة أنتجت مصطلحاً آخر لا يخلو من دلالة هو «الفلسطينيون العالقون».

من مطالعة المناسبات التي يطفو فيها هذا المصطلح نجتهد بأنه يشير إلى الفلسطينيين الذين تسوقهم أقدارهم العاثرة للوقوع في دائرة رماية سياسية أو قانونية أو عسكرية أو حتى إعلامية بين فريقين أو أكثر، لأسباب وبواعث خلافية لا دخل لهم فيها وقد لا يدرون شيئاً عنها.

ربما كان هؤلاء العالقون أفراداً أو جماعات.. لكن أوضاعهم اللوجستية تنطوي دوماً على أخطار جسيمة، حدها الأدنى استشعار اللاطمأنينة والحيرة والتوتر والقلق الشديدين على صعيد أو أكثر من صعد حياتهم، وحدها الأقصى افتقاد الأمن وتوقع التعرض للموت في أية لحظة ومن أي مكان، مروراً بانتهاك أبسط الحرمات والحقوق الإنسانية والعيش على صفيح ساخن.

تاريخياً يعد الشعب الفلسطيني برمته عالقاً منذ عشرات السنين على خلفية أحداث ومعطيات في الرحاب الدولية لم يشارك في صناعتها بالمطلق.. أحداث تفاعلت في عوالم بعيدة عنه (أوربا مثلاً)، لكنها في التحليل الأخير وقعت على أم رأسه، لتجعل استقلاله ومصيره عالقين على ما نسمع ونرى.. على أننا إذا ضيقنا زاوية الرؤية، أمكننا العثور على عالقين بالمعنى الفردي أو الجماعي داخل هذه الحالة الفلسطينية العامة.

فالفلسطيني قد يعلق في طائرة أو سفينة أو معبر حدودي ما، لأن دولة في هذا العالم الفسيح لا تريد أن تتفضل باستقباله ولا ترحب بإقامته، أو لأن جدلاً قانونياً أو سياسياً أو أمنياً دار بين بضع حكومات ودوائر جوازاتها بشأن تابعيته أو أحقيته في الإقامة على أرضهم المصونة.

وقد يعلق الفلسطينيون بالعشرات أو المئات أو الآلاف بفعل أحداث طارئة تعصف بالمجتمعات والدول المضيفة لهم، أو نتيجة تكييفات ورؤى فقهية وسياسية تفتى في شؤونهم وشجونهم ومفردات قضيتهم الوطنية ومآلاتها في الحال والاستقبال.

فلكي يؤكد الزعيم الليبي معمر القذافي تهافت اتفاق أوسلو والحكم الذاتي الفلسطيني قبل أكثر من عقد، أجبر حشداً غفيراً من الفلسطينيين المقيمين في بلده على المغادرة نحو الضفة وغزة، وكانت النتيجة أن علق هؤلاء على الحدود المصرية الليبية في ظروف مزرية لشهور.

وقبل هذه الواقعة ببضع سنين علق ألوف من فلسطيني الكويت على حواف بعض الدول العربية، كالعراق والأردن، عقاباً جماعياً لهم على موقف سياسي قيل إن القيادة الفلسطينية اتخذته تعاطفاً مع النظام العراقي في غزوه للكويت.

أما أكثر النماذج طزاجة بالخصوص، فهو مشهد فلسطينيي الساحة العراقية وقد تحولوا من لاجئين ونازحين، إلى عالقين أيضاً داخل العراق وعلى تخومه مع الأردن بخاصة. لقد مر على هذا المشهد المأساوي أربعة أعوام بالتمام، انكشفت فيها هذه الشريحة أمام استباحات من مختلف القوى المتصادمة حولهم في ساحة صارت تفتقد لأبسط قواعد الأمن تحت احتلال غشوم.

نعلم أن هذه الشريحة لا تتميز عن مضيفيها أهل العراق في المعاناة من بيئة مفعمة بالأخطار.. ومع ذلك يصح الاعتقاد بأن فلسطينيي العراق يقعون تحت ضغوط اشد وطأة بالنظر لإعلام وثقافة التحريض عليهم، وافتقادهم لأنماط الحماية والغطاءات التي يتدثر بها المتنابذون هناك (سياسة حزبية؛ قبلية؛ طائفية؛ جيش وشرطة؛ قوات احتلال ومرتزقة..)!

لنا أن نتخيل طعم الحياة المريرة التي يعيشها هؤلاء العالقون في أجواء ملتهبة يحف بها عدم اليقين من كل النواحي. ولا يبدو أن حكومات عراق ما بعد الاحتلال قد أولت هذه القضية حقها من الاهتمام ولا تمكنت من إسباغ الحماية اللازمة على أصحابها. قالت ذلك بصريح العبارة المذكرة المرفوعة من العالقين إلى قمة الرياض، التي مضت إلى مناشدة (استرحام) الزعماء العرب أن يفتحوا أمامهم أبواب بلادهم لاستقبالهم عوض البؤس الذي يكابدونه على مدار الساعة.

لم يمض وقت كاف على اختبار أصداء هذا النداء. لكن النذر الأولى لا تعد ببشارات. وعليه، ينبغي النظر جدياً لعواقب إفصاح المفوضة العامة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (اونروا) كارين أبو زيد عن عرض لاستقبال 7 آلاف من هؤلاء العالقين في الولايات المتحدة (ويقال إن المقصود كندا)!. وقد نفت أبو زيد فكرة التوطين عن هذا العرض، لكنها لفتت النظر إلى أن دولة (عربية) لم تقدم عرضاً مماثلاً.

والحق أنه مع تقديرنا للشهامة والدوافع الإنسانية المحيطة بهذا المقترح، فإننا نخشى من توابعه السياسية والقانونية على حق العودة الفلسطيني المطارد بقوة في هذا التوقيت. ونعتقد أنه من العيب أن تضيق الرحاب العربية أمام هذه المجموعة بحيث تمسي مخيرة بين هواجس الإهمال حتى الموت وبين اللجوء الثاني أو الثالث إلى ما وراء البحار الذي سينتهي بالتوطين بصمت هناك.

نحن إزاء سابقة صريحة لطي حق العودة، تستغل الماء العكر الذي يعيش فيه اللاجئون. وهذا يستحق مبادرة عربية عاجلة لا تكتفي بالتعاطف والتعبير عن الأسى والأسف إذا ما أريد صيانة هذا الحق جدياً.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات