السبت 27/أبريل/2024

فيلم دير ياسين … الوجع

فيلم دير ياسين … الوجع

لمشاهدة الفيلم اضغط هنا 
 
لحفظ الفيلم اضغط هنا
 

اليوم تكون عيوننا شاهدا علينا،عندما ننظر إلى جراحنا النازفة على امتداد تضاريس “الحلم العربي”! عشراتُ الفضائيات  تتسابق إلى بث صور مدائننا وهي تدخل أنفاق الاستعمار من جديد، وليت الأمر وقف عند هذا الذهول فقط! بل إن عصر الثورة الإعلامية”، وصل إلى حد أن نرى ماضينا بكل ما فيه من حكايات متلونة بالغضب والآهات، ماضٍ في حاضر، وحاضرٍ في ماض يجيءُ عبر مشاهد تغيرت فيها الأسماء فقط، لكنها احتضنت حكايةً مؤلمة اسمها “دير ياسين”، نكاد نصدق أنها جرت بالأمس القريب في قانا، وصباح هذا اليوم المظلم في بغداد الرشيد، والتي ينزف شريطُ أحلامها  منذ أكثر من خمسٍ وخمسين سنة على أرض الإسراء والمعراج .
 
الآن أعود بكم إلى أرض الحدث، مع أشخاص عادوا في زماننا إلى زمانهم، ليرسموا لنا بالحكايات صوراً من ماضٍ يعود في أشكال جديدة وأسماء أخرى، ولعل هذا ما نراه في أولى وقفاتنا التالية. دير ياسين التي تُطل من بوابات الجرح الفلسطيني كأقسى ما يكون، وتزرع بأعجوبة في شرايين الموت بشائر الحياة، وتروي بالمداد الأحمر فصولا لا تزال تحنُّ إلى صبح الثأر وفجر حر .

بين مسافات  القرية التي شهدت المذبحة تطل علينا..شاهدة العيان..الحاجة” زينب إسماعيل” تحكي باللوعة التي يعجز القلم عن وصفها، وتبكي حرقتها.. ووسط هذه النفس الملبدة بغيوم الأيام والمترنحة بين ذكريات الأحبة نجد شيئا واحدا يوصلنا إلى ما يجول في نفسها..إنها (كاميرا) فيلم “دير ياسين..الوجع للمخرج إياد الداوود الذي استطاع في “عشرين دقيقة من فيلمه الوثائقي فقط” أن يقتحم خلوة النفس مع الحاجة لينقل أشجانها التي طالما خبأتها في رفوف الزمن وأدراج الذكريات. عشرون دقيقة كانت مثل مسافر مع الأيام والأعوام، عيون تحدق في الشاشات، وقلوب تحاول أن تبصر ما جرى لعلها تستفيد من الدرس وتتجاوز “لازمة” البكاء في مثل هذه الأفلام. هذه الدروب التي تمشي فيها شاهدة العيان وهي تشير تارة إلى اليمين وتارة أخرى إلى الشمال، تنظر إلى الأعلى، تتصرف بشكل تلقائي، دافعه حب الذين رحلوا وتركوها شاهدة على زمن يحاول الصهاينة دفنه حين حولوا القرية إلى مستشفى للمجانين وعيادات صحية لا أكثر !

أتساءل أحيانا كيف استطاع المخرج أن يعيد فتح بوابة دير ياسين بهذا الشكل والإطلالة على الناس به رغم أنه يعز عليه أن يطل علينا بالوجع الذي يحاصرنا في حاضرنا فكيف بماضينا، أخرجها من صمتها لتنكأ الجراح وتخرج القيح الذي طالما تسلل في دروب الدمع الفلسطيني، كل ذلك كي تُبصر العيون حقيقة الصراع من جديد، فحين يخرج لنا بخلاصة الفيلم على لسان الحاجة بعبارة بسيطة في كلماتها، غزيرة في معانيها، عميقة في فكرها” عدو جِدَّكْ…ما بِوِدَّكْ…لوْ تِعبدوا عبادة ربَّكْ‍‍”. هذا الدرس الغالي والذي دفعت من أجله أرواح عدد من أحبتها رغما عنها، توصله اليوم للأجيال وتذكر به الناس. هل هذا فقط..طبعا لا، فمقولة المجرم “مناحيم بيغن” وهو أحد زعماء العصابات الصهيونية حينذاك: إن دير ياسين كانت مهمة بالنسبة لقيام دولة إسرائيل يوضح الحقيقة التي سارت عليها تلك العصابات من عمليات ترويع وترهيب منظمة بحق أبناء شعبنا . ورغم كل هذه الحقائق فقد كنت أتساءل بيني وبين نفسي: ما الذي أعطى هذا الفيلم الوثائقي روعته النازفة ؟ كنت أسأل عن سر تلك الجراح التي تُضحك الضحية وتُبكي الجلاد؟؟

هل هو هول اسم المذبحة الأشهر في تاريخنا المعاصر؟ هل يكمن في وصول المخرج إياد الداوود وفريق العمل إلى مكان القرية؟ هل تمكنهم من أخذ حديث مؤثر مع شاهدة العيان الوحيدة التي بقيت من زمن الجرح؟ هل بساطة الفيلم وجدليته في ذات الوقت مما يصطلح عليه بالسهل الممتنع … يجيبني صديقي: أظنك قد تلمست جوانب الحقيقة في كل ما ذكرت، ولكنني أضيف إليك سببا آخر: هو ذلك الاسم الذي حمله الفيلم والذي يعطي شعورا خفيا بأن دير ياسين وجهٌ بشعٌ في مشاهد الذاكرة، لكنه مشهد يتكرر بين الحين والآخر باسم مختلف وصورة مغايرة، لكنها تظل في النهاية مشهدا ينكأ الذاكرة بالوجع القديم لتقول لنا في كل محطة مؤلمة” بحر البقر، كفر قاسم، صبرا وشاتيلا، قانا،مجزرة الأقصى، مذبحة الحرم الإبراهيمي وغيرها وغيرها “.

دير ياسين وجع في ذاكرة الأمة تعود إلينا، تتجدد الدماء في سطورها ودروبها لأن الخنجر الصهيوني لا يزال مغروسا في جسد الوطن الحبيب… إنها إذن المجزرة المفتوحة” كما يسميها المخرج نفسه ليصف ما يجري على الأرض سابقا ولاحقا، هذه المجزرة التي ينفذها الإجرام الصهيوني بشكل متواصل، يتغير فيها شكل الخنجر ولكن يبقى المحتل هو المحتل، ولو اختلفت أسماء مجرميه وتمدد الزمان على رصيف السنوات .
يقولون في الأدب، إنك لا تستطيع أن تنتزع ما في النص من روعة أو تُلبس نصا آخر مكانا لا يستحقه، وأظن وأنا هنا أتحدث عن فيلم فلسطيني مؤثر لا أبتعد كثيرا عن المفهوم الأدبي للنص..كيف لا وأنا كشخص عادي وبعيدا عن التقييم الفني أرى الذاكرة تُعيد فتح أبوابها لكي تستقبل من جديد وجعها الذي لا يتوقف..وتُعبِّر بعد ذلك المشاعر عن نفسها بأغلى ما تستطيع وأحزن ما يكون..دموع تحفر في أخدود الصمت مرارة الدم الذي لا يزال منسكبا في فصول الحكاية بمشاهد مختلفة وأزمنة متعددة .. وإذا كان ” الداوود ” يقول دائما: إن الأبطال الحقيقيين لأفلامه هم أولئك الذين يستعذبون التضحيات ويتذوقون المرارات ولا ينهزمون، لأنني أحب أن أَضيف شيئا آخر إلى ذلك: إنّ بطلها وبجدارة…الدم الفلسطيني الطاهر، رغم ما حازه الفيلم من جوائز فنية متعددة !!

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات