إسرائيل ومطلب الاعتراف الفلسطيني
صحيفة الحياة اللندنية
يختلف الفقه القانوني حول ما إذا كان الاعتراف بالدولة منشئاً لها أم إنه مُقرر لوجودها. هناك من يقول إن الأصل هو تمتع الدولة بالشخصية الدولية بمجرد استقرار عناصرها الأساسية، الشعب والسلطة والإقليم، وذلك بغض النظر عن الاعتراف بها من عدمه، لكن بعض الفقهاء يعتقد أن شخصية الدولة تبقى من دون الاعتراف ناقصة، ويذهبون إلى أن الاعتراف منشئ ومقرر في الوقت ذاته، ويتساءل هؤلاء عن الكيفية التي ستتفاعل بها دولة ما مع محيطها الإقليمي والدولي، في عالم شديد التواصل والاعتمادية المتبادلة، إذا لم يتوفر لها حد معقول من الاعتراف على هذين الصعيدين.
والحق أن عدم الاعتراف غالباً ما يؤشر إلى موقف سلبي وربما عدائي تجاه الدولة المقصودة بهذا الإجراء، وفي حالات بعينها، يتأسس هذا الموقف على موجبات وأسباب بالغة الحدة والصلابة، تصل إلى التشكيك في أحقية الدولة في الوجود ومنازعتها حول أحد أهم مقوماتها الرئيسة، كالإقليم الذي تستحوذ عليه وتدعيه لنفسها. المقاربة العربية بعامة والفلسطينية بخاصة لقضية الاعتراف ب”إسرائيل” تبدو وثيقة الارتباط بمثل هذه الموجبات والأسباب. فطالما استبطنت هذه المقاربة الاعتقاد بأن “إسرائيل” ليست أكثر من كيان أو تجمع استيطاني نشأ وارتقى بالقوة العارية والمدد الخارجي على أرض لا يمتلكها، ومع أن هذا الكيان يستحوذ على المكونات الشهيرة الثلاثة للدولة، إلا أنه يعاني من الغياب الكامل لعنصر أو مقوم رابع هو «الأحقية التاريخية» في الإقليم الذي ينهض عليه.
هذا التصور وما يرتبط به من اعتقاد وسلوك فعلي، جوهره أن حجب الاعتراف العربي طويلاً عن “إسرائيل”، كان مزعجاً لهذه الأخيرة لكن ليس إلى درجة اعتباره مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، ذلك بالنظر إلى التصدع البنائي العام الذي لحق بأحوال المدعي الأساسي بالحق التاريخي والقانوني المضاد، وهو الشعب الفلسطيني. لعشرات السنين تطلعت “إسرائيل” للاعتراف العربي بها والتطبيع معها، غير أنها أرادت هذا الهدف بشروطها ومارست حياة الدول مع غير العرب بمعزل عن هذا الاعتراف، وفي هذا الإطار ذاته، خاضت “إسرائيل” على مدار الثلاثين عاماً الأولى بعد إعلانها حروباً مع الدول العربية، كما اقترفت اعتداءات واحتلالات وقامت بانسحابات وأبرمت هدنات عبر وساطات ومفاوضات غير مباشرة، حدث هذا وغيره قبل اعتراف أول دولة عربية بها وتوثيقه عام 1979.
وقوع هذه الظواهر، ينفي فكرة أن الاعتراف العربي منشئ ل”إسرائيل”. الأقرب للفهم أن هذا الاعتراف كان وما زال مطلوباً لتقرير وجودها وتعزيزه، وتخفف عواصم كثيرة في عوالم الآخرين من الأعباء والقيود التي ألقاها عليها موقف عدم الاعتراف العربي وهي تحاول التعامل معها، والأهم أن الاعتراف العربي كان من شأنه وما زال المشاركة في كبح تطور الحقيقة الفلسطينية وتقييد الفلسطينيين ولجم طموحاتهم ودعاواهم المضادة على طول الخط لوجود “إسرائيل”. ولأن الدول العربية اضطلعت بعمليات الكبح والتقييد هذه طويلاً حتى في ظل سياسة عدم الاعتراف، فإن “إسرائيل” لم تحفل كثيراً بهذه السياسة. لنلاحظ مثلاً كيف صدر القرار 242 من دون نص صريح على الاعتراف المتبادل بين الدول العربية و”إسرائيل”، وكذا من دون الاستطراد ولو تلميحاً إلى قضية التطبيع. ونظن أنه لو تطرق القرار إلى الأبعاد السياسية للقضية الفلسطينية لكان ل”إسرائيل” مع مسألة الاعتراف العربي بها شأن آخر.
لقد تحدث القرار 242 عن «حدود آمنة ومعترف بها» وعن تسوية لـ «قضية اللاجئين»، ويقيناً فهمت “إسرائيل” أن تحقيق هذين الهدفين يلغي ضمنياً تأثير سياسة عدم الاعتراف العربي بها، إذ أين هو النقيض المباشر لوجودها على الأرض التي يدعوها البعض فلسطين؟ بمعنى أنه سواء اعترف العرب أم لم يعترفوا بـ”إسرائيل”، فإنها تبقى الحقيقة الدولية الوحيدة على هذه الأرض.
نزعم في كل حال أن الانشغال الإسرائيلي بقضية الاعتراف العربي، ثم التأكيد على الاعتراف الفلسطيني بشكلٍ استثنائي، قد تناسبا طردياً مع اتجاه الحقيقة الفلسطينية السياسية والمسلحة المقاومة إلى التطور والتبلور، والانبعاث في الرحاب العربية والإقليمية والدولية، فبفعل هذا الاتجاه أضحى على “إسرائيل” التمييز بين صراعاتها مع الدول العربية التي تندرج في التحليل الأخير في باب الخلافات الحدودية أو السياسية «المألوفة»، وبين صراعها مع شعب يدعي عليها بحقوق تاريخية وقانونية ضاربة تمتد إلى وجودها ذاته، أضحى عليها بصيغة أخرى استحضار سيناريو نشأتها الأولى وما ارتبط بها من خطايا وعيوب خلقية.
لا يبالغ كثيراً من يعتبر أن الاعتراف العربي بـ”إسرائيل” أقرب كما أشرنا إلى مدرسة التقرير وبمثابة توسيع لآفاق الحركة أمام هذه الدولة، فيما يعد الاعتراف الفلسطيني، سواء كان عاماً ونهائياً وساطع الوضوح، أميل إلى مدرسة الإنشاء. أنه أبو الاعترافات جميعها قياساً بغيره، لقد مضى الزمن الذي كان فيه هذا الاعتراف أمراً ثانوياً لا تبعأ “إسرائيل” به، ذلك حين كان الشعب الفلسطيني نسياً منسياً وعند بعض القادة الإسرائيليين مثل غولدا مائير «لا وجود له»، وقتذاك ما كان عقلانياً ولا منطقياً أن ينشد هؤلاء ودولتهم اعترافاً من قومٍ لا كينونة لهم ولا وزن لكلمتهم! أما وقد استجمع الفلسطينيون أمرهم وصارت لهم أنساق مؤسسات، كالتي للدول، وحصلوا على اعترافات بوجودهم ومطالبهم إلا قليلاً منها، فقد بات على “إسرائيل” أن تشدد الضغوط عليهم ليعترفوا بها، لأن اعترافهم هذا فيه صك البراءة الأعظم لكينونتها بالمعنيين التاريخي أولاً والقانوني ثانياً.
على هذا المضمار تبدي إسرائيل حساسية عالية إلى درجة مثيرة ربما للسخرية، فهي لا تكتفي باعتراف منظمة التحرير، الممثل الشرعي الوحيد، وإنما تعمد إلى تحصيل الاعتراف من كل قوة أو فصيل أو حركة أو تيار ينتمي للفلسطينيين ويشتغل في حقل السياسة، داخل النظام الفلسطيني وخارجه، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، كما أنها على خلاف سلوكها مع الدول العربية المعاهدة لها، تتخذ من هذا الاعتراف وتجديده شرطاً، واجب الالتزام العلني والإشهار على الملأ، قبل شروعها في أية خطوة حوارية أو تفاوضية صغرت أم كبرت مع أي قطاع فلسطيني رسمي أو أهلي. هذا أمر ظاهر جداً مع حركة «حماس» قبل وصولها للسلطة وبعده.
الدول الواثقة من نفسها لا تفعل ذلك عادة، وللقائلين بأن الحوار أو النقاش أو التفاوض لا يستقيم إلا بين أطراف تعترف ببعضها البعض، ندفع بأن عكس ذلك جائز ومنطقي أيضاً، لاسيما في الحالة الإسرائيلية الفلسطينية، حيث التكاسر يدور على قضايا فارقة بالنسبة إلى حدود الوجود والعدم. إن قوى فلسطينية كثيرة ليست حريصة على اعتراف “إسرائيل” بها، وتستطيع “إسرائيل” أن تتخاصم مع هذه القوى وتحتكم إلى الشرعية الدولية، عندئذ سينشأ كيانان: “إسرائيل” وفلسطين في حدود أمنة ومعترف بها، وقد لا تكون ثمة حاجة للاعتراف المتبادل بينهما. لقد أشرنا إلى أن القرار 242 استأنس بهذا الفهم في علاقة الدول العربية بـ”إسرائيل”، فلمَ لا يُعمل بالتقليد ذاته بين “إسرائيل” وفلسطين؟
إنه لأمر غريب وشاذ حقاً أن تُصر “إسرائيل” على اعتراف الفلسطينيين بها، بينما هي تحتل أرضهم. وغريب حقاً أن الدولة القوية التي تسعى إلى كأس الجدارة بقيادة «الشرق الأوسط» تشتاق إلى اعتراف من هذا القبيل. نحسب أن كلمة السر في هذه الأحجية تتعلق بصك البراءة من عبء النشأة الإسرائيلية الأولى، كما نحسب أن الفلسطينيين والحال كذلك، الرافضون منهم لشرط الاعتراف المسبق بالذات، يملكون ورقة قوية لا ينبغي لهم التفريط بها بسهولة.
كاتب فلسطيني
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
حرارة الجو ..أزمة جديدة تفاقم معاناة النازحين بغزة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام مع ارتفاع حرارة الجو في قطاع غزة، تبرز أزمة جديدة لتفاقم معاناة مئات آلاف النازحين المهجرين قسرًا في قطاع غزة، بفعل...
اشتباكات ومواجهات مع الاحتلال في الضفة
الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلامواصلت قوات الاحتلال عمليات الاقتحام والمداهمة لقرى ومدن الضفة الغربية، فجر الأحد، وسط عمليات اعتقالات وتصدي...
حزب الله يعلن قصف مستوطنة ميرون الإسرائيلية بعشرات الصواريخ
بيروت - المركز الفلسطيني للإعلام أعلن حزب الله اللبناني، السبت، قصف عناصره مستوطنة ميرون والمستوطنات المحيطة بها شمال إسرائيل بعشرات صواريخ...
لقاء قيادي يضم قادة حماس والجهاد والجبهة الشعبية
المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت حركة حماس في تصريح صحفي، السبت، أنّ قيادات حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية عقدت لقاء مهمّاً، في ظل...
في ظل تواصل الاحتجاجات.. مجلس جامعة كولومبيا يدعو للتحقيق مع الإدارة لاستدعائها الشرطة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام صوت مجلس جامعة كولومبيا لصالح قرار يقضي بالتحقيق مع الإدارة التي استدعت الشرطة، بينما واصل الطلاب في الجامعات...
القسام تعرض تسجيلاً مصوراً جديداً لأسيرين لديها يطالبان حكومتهم بإتمام صفقة للتبادل
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام عرضت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، اليوم السبت، مقطعاً مصوراً لأسيرين لديها يطالبان حكومة نتنياهو بإتمام...
مئات الآلاف من البريطانيين يلبون نداء المظاهرة الوطنية للتضامن مع غزة
لندن - المركز الفلسطيني للإعلام شارك مئات الآلاف من البريطانيين في المظاهرة الوطنية ال13 للتضامن مع غزة، استجابة لدعوة التحالف الوطني للتضامن مع...