الجمعة 26/أبريل/2024

كيف قلبت كتائب القسام موازين القوى وفرضت معادلات غزة عربيا دوليا؟

كيف قلبت كتائب القسام موازين القوى وفرضت معادلات غزة عربيا دوليا؟

غزة – المركز الفلسطيني للإعلام

لم تكن عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، كغيرها، لا من حيث التوقيت ولا الحجم وبالتالي التداعيات، فقد أخذت جزءا كبيرا من نصيب اسمها حتى أحدثت طوفانا في المنطقة ككل ووصلت أمواجه العالم.

وقد أحدثت العملية زلزالا سياسيا في المنطقة وعسكريا سياسيا في الأراضي المحتلة، قلب موازين القوى وغير كثيرا من المعادلات الراسخة، تلك التي ألقت بظلالها على الفلسطينيين عقودا طويلة.

لا يبدو أن المخطط لعملية “طوفان الأقصى” قد اكتفى بزواياها المنظورة من الناحية العسكرية والجيوسياسية والمكاسب الآنية للفلسطينيين بل تعداه إلى استعادة القضية الفلسطينية من أدراج المفاوضات المنسية ووضعه على الطاولة مجددا وعلى مرأى العالم أجمع، كما يقول المحلل السياسي علي الطائي في تحليل نشرته عربي21، في العناوين والفواصل التالية.

مثل قطاع غزة عقدة لدولة الاحتلال طوال العقود الماضية، فهو فضلا عن مكانته التاريخية والسياسية والاجتماعية ظل القطاع كابوسا لحكومات الاحتلال المتعاقبة، إذ يتجمع في الشريط الساحلي الصغير أصحاب الأرض المهجرون من الأراضي المحتلة، وهؤلاء يمتازون بذاكرة حديدية وانتماء للأرض قل نظيره إذ يسلم الجد الأب مفتاح البيت المستلب في عسقلان أو الناصرة والنقب، ثم يصل إلى الحفيد وهكذا يكبر أطفال غزة وهم على بعد مسافة قصيرة من أراضي أجدادهم التي بنى عليها الاحتلال دولته.

وشيد الفلسطينيون على أرض قطاع غزة مخيمات يفترض أنها مؤقتة لحين استرجاع الحق وعودة أصحاب الأرض لأرضهم، وهكذا نمت المقاومة وتعاظمت قوتها وبالتزامن يزداد قلق الاحتلال من غزة وسكانها يوما بعد آخر، حتى تقابل الطرفان يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

ويمكن ملاحظة الأثر المعنوي لعملية طوفان الأقصى بالفرحة العارمة التي عمت فلسطين ككل والعالمين العربي والإسلامي على حد سواء، حيث رآى كثيرون ذاك اليوم، يوم القصاص من احتلال طالما تفاخر بقوته وقسوته، وانتصاراته في الحروب السابقة.

كانت الهزيمة التي مني بها جيش الاحتلال أولى موجات الصدمة الأولى للطوفان، فقد استطاع بضعة مئات من المقاتلين سحق فرقة غزة، التي تعد من الفرق القوية والمهمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، فضلا عن تدمير مواقع عسكرية شديدة التحصين والوصول لنقاط لم يكن يتوقع أكثر ضباط الموساد تشاؤما الوصول إليها، واختراق جدران من الدفاعات مزودة بتكنولوجيا فائقة وأسلحة دقيقة وقوات تتمرس على حدود القطاع.

وكسرت عملية طوفان الأقصى معادلات قوة مفروضة في المنطقة منذ زمن، تتحدث عن قوة جيش الاحتلال، كما فندت مسلمات ومفاهيم ساهمت بأثر سلبي بالغ على القضية الفلسطينية وأولها فرق القوى الكبير بين الاحتلال والمقاومة.

واستطاعت كتائب عز الدين القسام بإمكانياتها المحلية من بناء جيش لا يمتلك الدبابات والطائرات، لكنه يمتلك إرادة للقتال جعلت الطائرات الشراعية أكثر رهبة من الـ F16 والدراجات النارية تقوم مقام ناقلات الجند، والغواصون المسلحون بأسلحة فردية، يقومون بمهام سلاح البحرية.

ولم تكن المؤسسة العسكرية المتضرر الأكبر من العملية، إذ تعرض جهاز استخبارات ومخابرات الاحتلال لضربة قاسية جعلت من “الموساد والشاباك” محط اتهام بالفشل الذريع بعد أن كانا أنموذجا للعمل الأمني حتى استعانت بهم دول عربية وغربية.

وأخفق الجهازان بإمكانياتهما الفائقة، برصد العملية أو حتى توقعها، واستطاعت المقاومة الفلسطينية فقأ عيون الشاباك وصم أذن الموساد، عن العملية الكبيرة.

ومن المنتظر أن تندلع أزمة قد لاتنتهي سريعا داخل مؤسسات دولة الاحتلال بعد أن تضع الحرب أوزارها، لمحاسبة المتسببين بهذا الفشل الذي حطم سرديات روجتها إسرائيل على مدى 75 سنة.

انهارت فكرة “المستوطنة” التي قامت عليها دولة الاحتلال، حيث أثبتت هذه الفكرة الاستعمارية فشلها، بعد أن راهنت الحكومات الإسرائيلية على نجاحها، وفرضها كأمر واقع.

وتقوم فكرة “الكيبوتس” على دعوة اليهود من أصقاع العالم للسكن في الأراضي المحتلة ومنحهم منازل ومزارع وتوفير فرص عمل، والتعهد بحمايتهم سواءا بتسلحيهم شخصيا أو عن طريق فرق عسكرية كما الحال مع فرقة غزة التي تعد من نخبة جيش الاحتلال.

وخلال ساعات معدودة سيطر مقاتلو القسام على عدة مستوطنات في غلاف غزة بعد انهيار جيش وشرطة الاحتلال، وبذلك سقطت الفكرة الاستعمارية الرئيسية التي قام عليها الاحتلال.

وأخلت السلطات الإسرائيلية مستوطنات غلاف غزة عقب العملية تحسبا من خروقات مستقبلا وكذلك بسبب صواريخ المقاومة التي تمطر تلك المستوطنات بشكل يومي.

صدم حجم عملية الطوفان قادة الاحتلال وأجبرهم على التحدث بصراحة مطلقة دون مواربة، ولأول مرة صار حديث المسؤولين الإسرائيليين يتطابق مع ممارستهم على الأرض، فبدأت الدعوات لإبادة غزة ووصف الفلسطينيين “بالحيوانات” بالإضافة لدعوات إبادة جماعية للفلسطينيين كما قال وزير التراث في حكومة نتنياهو الذي اقترح ضرب غزة بقنبلة نووية.

وتماثل ذلك مع وحشية منقطعة النظير على الأرض، شاهدها العالم أجمع عندما استهدف الاحتلال المستشفيات والمدارس والكنائس ودور العبادة وحتى قوافل النازحين، في صور صدمت العالم، وكشفت عن انموذج الدولة المتحضرة الديمقراطية في المنطقة التي تمتدحها الولايات المتحدة.

واتسعت الإدانات لسياسة الاحتلال وعدوانه على غزة لتشمل الدول الداعمة للاحتلال حيث وضعت كل القيم التي يروجها داعمو الاحتلال وأحاديثهم عن حقوق الإنسان على المحك، حتى بات الحديث عنها محط سخرية وتندر بالنظر إلى إزدواجية المعايير التي يتعامل بها العالم مع القضية الفلسطينية.

ويبدو أن صور الشهداء في القطاع ومشاهد المجازر هناك ستبقى عالقة في الأذهان مدة طويلة، كما ستجعل من حديث داعمي الاحتلال عن الإنسانية أنموذجا للنفاق السياسي وتجريم الضحية والتضامن مع الجلاد.

أعادت عملية طوفان الأقصى في إعادة القضية الفلسطينية كقضية مركزية في المنطقة بعد أن همشت طوال السنين الأخيرة وبات الاحتلال واقع حال والحديث عن أي حل يخفف من معاناة الشعب الفلسطيني، محض بيانات وأحاديث لا ترى النور، خصوصا أن القضية لم تعد أولوية لدى عدة دول عربية في ظل تغير المواقف السياسية من الاحتلال الذي ألقى كل ما اتفق عليه سابقا وراء ظهره من حل الدولتين حتى حق العودة وليس انتهاءا بوقف الاستيطان.

وتصدرت القضية الفلسطينية مجددا أروقة غرف صناعة القرار الدولية، وعاد حق الشعب الفلسطيني بالعيش على أرضه يجري على ألسنة الساسة حتى أولائك المؤيدين للاحتلال، خوفا من تكرار عملية طوفان الأقصى بشكل أوسع، فقد بات الفلسطيني الآن هو الفاعل الرئيس في قضيته.

كانت القرار الفلسطيني منذ 1948 وحتى وقت قريب يخضع لضغوطات وإملاءات عربية وغربية كبيرة، أثرت بشكل كبير على إرادة “منظمة التحرير الفلسطينية” بدءا من اتفاقية أوسلو وصولا إلى الاقتناع بأن فكرة تحرير الأرض باتت بعيدة المنال.

وعملت الدول العربية والغربية المؤثرة عن قصد أو دونه، على منح “إسرائيل” مساحة واسعة للتنصل من القرارات الدولية والاتفاقيات الموقعة، وكل ذلك تم دون رد فعل ملموس من جانب الدول الضامنة أو الوسيطة، وهكذا صودر حق الفلسطينيين بتقرير المصير، من قبل “الأوصياء على القضية”.

تمكنت حركة حماس بعد عملية طوفان الأقصى من جعل الفلسطيني هو الرقم الأصعب في المعادلة، وقطعت الطريق على كل محاولات ركوب الموجة والتفرد بالقرار دون الرجوع إلى الفلسطينيين خصوصا مع الحديث عن اتفاقيات تطبيع عربية أُقحمت فيها القضية الفلسطينية.

وخلال الفترة الماضية، يتقاطر مسؤولون من عدة دول على الدوحة للقاء قادة حماس، كما زار قادة الحركة عواصم عربية وإسلامية وغربية لمناقشة الوضع في غزة، حتى بدا واضحا للجميع أن الملف اليوم بيد الفلسطينيين أنفسهم الذين باتوا يتعاملون وفق مبدأ الندية مع الجميع.

وضعت عملية طوفان الأقصى المنطقة أمام منعطف جديد يتمثل بضرورة حل القضية الفلسطينية قبل الحديث عن أي تهدئة أو سلام نسبي في المنطقة، وهذا أحرج الجميع على الإطلاق، من الدول العربية التي طبعت علاقتها مع الاحتلال حتى المحور الإيراني الذي طالما أعلن وقوفه إلى جانب المقاومة الفلسطينية.

وتباينت مواقف الدول العربية من العملية بين مندد بها على غرار الإمارات والبحرين، وبين داع للتهدئة ووقف التصعيد، لكن الثابت من كل ذلك، كان ضعف الموقف العربي بشكل عام، الذي عجز عن إدخال حليب الأطفال لغزة في الشهر الأول من العدوان إلا بوساطة أمريكية، خصوصا أن معبر رفح يربط دولة عربية بغرة، وهذا وضع الأنظمة العربية بحرج كبير أمام الشعوب الغاضبة، فإن دفعت عنها تهمة التواطؤ مع الاحتلال في عدوانه على القطاع، فإنها لن تستطيع نفي صفة الضعف عن تلك الدول التي استعانت بالرئيس الأمريكي لإقناع نتنياهو بالسماح لمصر بإدخال بعض المساعدات لغزة المحاصرة.

وعلى الجانب الآخر، وضعت العملية المحور الإيراني على المحك وباتت فكرة محور المقاومة التي يصدرها باختبار صعب، لا سيما أن حركة حماس دعت الجميع للانخراط في المعركة منذ ساعتها الأولى على لسان محمد الضيف قائد كتائب القسام.

ولا يبدو أن العمليات جنوب لبنان ترقى إلى حجم المعركة في غزة، فحزب الله والاحتلال لا يزالان ملتزمان بقواعد الاشتباك التي تبقي الوضع هنآك أقل من حرب مفتوحة وأكبر من اشتباك.

استطاع قطاع غزة المحاصر قلب موازين الإعلام ومعاندة آلة الإعلام الإسرائيلية الكبيرة التي تروج لرواياته، حتى غطت الأعلام الفلسطينية في التظاهرات الحاشدة التي تطوف الغرب تطفى على رواية إسرائيل الذي تستمد قوتها من تلك الحكومات، وبات العالم اليوم مشغول بما يجري في غزة، لكن بزاوية الحقيقة لا بالزاوية التي يريدها نتنياهو.

وبعد أن ظل الاحتلال يرتدي ثوب المظلومية طويلا صار اليوم محط اتهام، وباتت كل روايته وأحاديثه خاضعة للتدقيق قبل التصديق، بعد انكشاف زيف الكثير من القصص التي اعتمدها الاحتلال بدءا من “قطع رؤوس الأطفال” وليس انتهاءا بمجمع الشفاء الطبي وزيف إدعاء وجود مركز قيادة للمقاومة تحته.

وتمكنت غزة الصغيرة مساحة، الكبيرة فعلا، من تغيير قناعات الملايين وإحراج دول عظمى وقلب مسار صراع طويل في المنطقة، يوشك أن يغير المشهد العالمي برمته.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات