عاجل

الجمعة 03/مايو/2024

بقيع عمواس

د. أسامة الأشقر

1.اليوم: لم يبق من هذا البقيع الذي حفظ لنا ذكرى الفتح وحكايات الفاتحين الأوائل سوى مقابر مفتوحة منبوشة وشواهد مخرّبة آيلة للسقوط وطرق محفورة وملاعب سياحية ومطاعم خبيثة سميت باسم المنتزه الكنديّ (كندا بارك) لأن أكثر التبرعات جاءت من ذلك المكان البعيد كما جاءت تبرعات الحروب الصليبية من قبل إلى هذه الأرض المقدسة لتمويل مسحنا من الوجود فيها؛ وتتبع هذه الحديقة “الوطنيّة” إلى الصندوق القومي اليهوديّ في كندا.

2.هناك في عمواس عند التلال العالية المشرِفة على سهول الساحل حيث الرملة ويافا وحيث طرق الجند وطرق التجارة وحركة القوافل كان ثمة معسكر كبير لجند فلسطين وجند الأردنّ يكملون مسيرة الفتح العظيم الذي بدأه رسول الله وواصله خليفته أبو بكر وأنجزه الفاروق عمر.

3.كانوا بالآلاف من قبائل الحجاز واليمن ولاسيما أولئك الذين فارقوا ديارهم وقرروا الالتحاق بالشام ليكونوا عساكر الفتح وقد انضمّ لهم نفر من أهل الشام وفلسطين وأكثرهم من قبائل الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة… انحازوا إلى إخوانهم العرب المسلمين ورفضوا أن يظلوا في جيش هرقل وحلفائه من متنصّرة العرب.

4.هذا المعسكر الكبير الذي استقرّ في هذه البقعة العسكرية بناءً على تعليمات القيادة العليا لأجناد الشام ولاسيما القائد الأعلى أبو عبيدة عامر بن الجرّاح وأركان حربه لم يضيّقوا على المدن الفلسطينية عيشها ولم يغتصبوا دورها ويَحِلّوا فيها بل ظلّوا في مهمتهم العسكرية يتحسّبون لردود أفعال الجيش البيزنطي ويمشّطون المناطق ويتابعون الملف الأمنيّ الحسّاس في لحظات تحوّل السيادة.

5.كانت المعارك كبيرة جداً وكان البيزنطيون يقاتلون عن واحدة من أقدس أماكنهم في القدس وبيت لحم حيث الكنائس الأمّ وكانت معارك أجنادين وفحل بيسان وقيسارية ومعارك حصار القدس تخلّف وراءها آلاف القتلى الذين يصعب إزالة جثثهم بسرعة فتتحلل وتتغيّر وتُوبِئ الجوّ.

6.كانت منطقة حوض البحر المتوسط ما تزال تعاني من ارتدادات الطاعون الهائل المعروف باسم طاعون جستنيان الذي تظهر ارتداداته كل عقد نتيجة عدم تطبيقات سياسات حجر مناسبة فكان ينتقل عبر سفن النقل والتجارة والحروب فيفتك كل مرة بمكان ويُفني أهله.

7.كان هذا المعسكر هو أكبر خطّ دفاعي في فلسطين لاسيما أن حروب البحر في ميناء قيسارية لم تزل قائمة ولم يزل البحر مصدر تهديد عسكري.

8.هنا في هذا المعسكر بدأ ظهور هذا الوباء الجارف وفسد جوهرُ الهواء واشتعلت العدوى وأكل الطاعون أطراف الناس وسرعان ما جاءت التعليمات بعدم الخروج من المعسكر ولا أدري إلى أي مدى التزم الجنود بهذا القرار الصعب أول الأمر.

9.احتاج الأمر شهوراً قاسية حتى ينكشف الواقع عن إبادة هذا المعسكر ثم تجاوز الوباء حدود المعسكر ليحصد عشرات الآلاف من الناس في أطراف الأردن وفلسطين وجنوبي دمشق.

10.كانوا يموتون أفواجاً وكان المرضى يدفنون المطعونين الموتى في مقابر جماعية يطوف عليها الخوف والحزن وترقّب الهجوم البيزنطيّ المنتقِم.

11.كانت فرحة الفتح المقدسيّ تتنغّص بهذا الطاعون القاتل الذي لم يرحم صغيراً أو كبيراً أو مدنيا أو عسكرياً… ولم يعد ثمة مجال للعزاء إذا عمّ البلاء حتى قالوا إن عمواس سميت بذلك لأنّ الموت فيها عمّ وآسى بين الناس وجعلهم سواء في المصيبة ولم يفرّق بينهم وجعلهم مستعدين للموت مسلّمين له.

12.كان هذا الطاعون فتّاكاً شرساً فهو لا يمهل صاحبه إذا تمكّن منه تنبّأ به رسول الله لأنه كان يرى ارتداداته في الشام ويسمع عن ذلك منذ سنين خلت أو هو وحي من الله ووصفه رسول الله بأن موَتان كقُعاص الغنم الذي يعرفه الرعاة فهو إذا نزل بالماشية رعفت الدم من أنوفها وقضى عليها ولم يترك منها شيئاً.

13.استعصم الناجون بالمرتفعات والأماكن النزِهة وارتفعوا عن الأماكن المنخفضة الغمقة ووضعوا أنفسهم في حجر صحي ومعازل كبيرة لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد وتمركزت معظم القوات في الجابية جنوبي دمشق لارتفاعها حسب تعليمات القيادة العمرية إلى أبي عبيدة أول ظهور الطاعون.

14.كان القائد العام أبو عبيدة يمارس عمله في المناطق الموبوءة ورفض محاولة الخليفة عمر وحيلته في الخروج من منطقة الطاعون وآثر أن يكون بين جنده وهو يعرف نهاية الأمر حتى قتله الوباء منذ أن ظهرت بثرته الأولى في خنصره وأعدّ للقيادة بعده قائداً فذّاً في منتصف الثلاثين من عمره هو معاذ بن جبل الذي ما لبث الطاعون أن بدأ في راحة يده حتى أجهز عليه؛ وقتل الوباء أيضاً قادة آخرين كشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ولم ينج من قادة الأجناد سوى عمرو بن العاص الذي قاد خلية الأزمة بعد ذلك للخروج من الوباء.

15.وهناك في سفوح عمواس شاهدٌ معماري كبير في “عمواس الفوقا” زعم القدماء أنه لمعاذ بن جبل وهو في الأساس مسجد يعود لحقبة متقدمة؛ وشاهد آخر في “عمواس الوسطى” قالوا إنه لأبي عبيدة وهو في الأساس حمّام من الحقبة البيزنطية والإسلامية المبكرة أضيف له محراب في قسمه العلوي في حقبة متأخرة بعد أن طمر بالتراب؛ وأكثر الناس أن هذين الموضعين ليسا قبرين وإنما مقام يدلّ على مكوثهما في المعسكر دهراً ولكن هذه القبور كلها ما تزال شاهدة على تلك الكارثة.

16.العجيب أن هذا الطاعون الذي أفنى أكثر الجند ربما يكون قد أوقف أيضاً الهجوم الارتداديّ البيزنطي لاستعادة ما فقدوه وأنّه قد يكون سبباً في نجاة عشرات الآلاف من الجنود وأسرهم الذين لحقوا بهم وآلاف السكان المستوطنين في هذا المكان فهل كانت هذه المحنة منحة كما كان يقول أبو عبيدة ومعاذ لجنودهما: “إن هذا الطاعون دعوة نبيكم ورحمة ربكم ووفاة الصالحين قبلكم” !

17.هذا البقيع كان يوماً حارس البوابات الغربية للقدس وما زال المعسكر الذي فيه يذكّرهم بأن ثمة مجداً قد ثوى هنا قد لا ترون أثره إذا لم تستعيدوا رفات أبطاله ! ;

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات