الأحد 05/مايو/2024

دماء نازفة عند الحواجز

حسام شاكر

شابّة أو امرأة ممدّدة على قارعة الطريق مع دماء نازفة من رأسها على الأرض. صار المنظر “اعتيادياً” في فلسطين، وتحوّلت ضحاياه من النساء والفتيات، مثل غيرهن من التلاميذ والشبّان إلى قائمة إحصائية متنامية لا تستوقف الإعلام حول العالم. إنهم ضحايا الإعدامات الميدانية التي تقترفها قوات الاحتلال بحق فلسطينيات وفلسطينيين عند حواجز الإذلال والقتل.

لا تنتهي مأساة هؤلاء الضحايا بالمسارعة إلى إطلاق رصاصات قاتلة عليهم، فأجسادهم تبقى ممدّدة فترة من الزمن مع خيوط الدم النازفة منهم، وهي فرصة للجنود لارتشاف القهوة ومتابعة أعمالهم الاعتيادية بعد “تحييد” خطر مزعوم. يتداول الجمهور صوراً ومقاطع تُظهِر أنّ جنود الجيش وعناصر الشرطة التابعين لقوات الاحتلال يُسارعون في هذه الحالات إلى تحريك أصابعهم برشاقة لإطلاق النار تباعاً، والإجهاز القاتل على “الهدف”، الذي قد يكون صبيّة في عمر بناتهم أو سيدة في سنّ أمّهاتهم. والجانب الآخر من المأساة أنّ الإعلان عن اسم الضحية الجديدة يتأخّر ساعات وربما أياماً، بما يتسبّب بضغوط نفسية هائلة على الأهالي.

صار القتل بهذه الطريقة تقليداً متكرِّراً يحتمي بذرائع منسوجة بعناية. لكنّ فكرة تشكيل خطر على حياة مجموعة من الجنود بسكين فاكهة تلمع من بعيد في يد تلميذة مدرسة لا تبدو منطقية، كما أنّ المسارعة إلى إطلاق رصاصات متكرِّرة نحو فتاة أو سيدة أو صبيّ بإصابات تهدف إلى القتل الفوري؛ تشير إلى القيمة التي يراها جنود الاحتلال لحياة الفلسطينيين عموماً.

لا مصداقية لرواية الاحتلال الرسمية بشأن الإعدامات الميدانية. إنّ ذرائع القتل الميداني النمطية التي تبرِّر بها قوات الاحتلال ما تقترفه؛ تعني ببساطة أنّه يمكن الإجهاز عليك بوابل من الرصاصات القاتلة إنْ كنتَ فلسطينياً وواصَلت سيْرك لسبب ما عند واحد من مئات حواجز الاحتلال العسكرية المُقامة في الضفة الغربية والقدس، أو إن صدر منك “سلوك غير اعتيادي”، وهو تعبير انطباعي فضفاض للغاية. يُشكِّل هذا الواقع خطراً مضاعفاً على الأشخاص ذوي الإعاقة السمعية أو البصرية، أو الذين لا يفهمون إشارات وصيْحات تصدر عن عناصر الجيش والشرطة في موقع القتل المفتوح، خاصة مع اختلاف اللغة وأساليب التعبير. وتبقى حواجز الاحتلال المغروسة بكثافة في مسارات الحياة اليومية الفلسطينية تهديداً فائقاً للأشخاص ذوي الإعاقة العقلية أو الذين يعانون من متلازمات تؤثِّر على قدراتهم الذهنية والتواصلية. وإن انتابت المرء نوبة تشنّج أو لحظة فزع في مواقع كهذه، فالثمن هو حياته.

لا تتردّد قوات الاحتلال في تبرير أي إعدام ميداني يقترفه جنودها أو عناصر شرطتها بمزاعم سهلة عن سلوك غير اعتيادي، كما أنّ القتلة المسلّحون لن يعجزوا عن وضع سكين إلى جانب الضحية الممدّدة أرضاً لفرض روايتهم الساذجة. لكن حتى في الحالات التي تحمل فيها فتاة في سنّ المدرسة سكيناً لمهاجمة الجنود المدرّبين بعناية؛ يبدو اللجوء إلى إطلاق وابل من الرصاص القاتل عليها من مسافة بعيدة تعبيراً عن ردّ غير متناسب. إنّ قائمة الضحايا واضحة في هذا الشأن؛ فعشرات الفلسطينيات من أعمار عدّة تم قتلهنّ عند الحواجز في سنوات معدودات، لكن كم جندياً أجهزت عليه إحداهنّ خلال ذلك الخطر المزعوم؟ النتيجة تساوي صفراً.

إنّ الإعدامات الميدانية هي من “المظاهر السيادية” التي تحتكرها قوات الاحتلال عند حواجزها الكثيرة التي تعرقل الحياة اليومية للفلسطينيين في أرجاء الضفة والقدس. إنها حواجز لإعاقة الحركة وممارسة الإذلال وتنفيذ الاعتقالات؛ وهي بؤر للقتل أيضاً.

قبل محاولة تصديق الذرائع التي تُصِرّ عليها دعاية الاحتلال من أنّ أعمال القتل المتكررة هذه بحق فلسطينيات وفلسطينيين عند الحواجز تقع بسبب وجود “خطر على حياة الجنود”؛ ينبغي – بالأحرى – الإقرار بأنّ وجود قوات الاحتلال على أراضي الفلسطينيين ونشر عناصر مسلّحة في مسالك حياتهم اليومية يشكِّل خطراً مؤكداً على الفلسطينيين وتهديداً مباشراً لهم.

لا يمكن لأي قوّة احتلال واضطهاد أن تتوقّع من شعب تحرمه حريّته واستقلاله وتسيطر على أرضه وموارده؛ أن يوزِّع باقات الزهور على جنود يمارسون الإذلال والتنكيل والقتل عند الحواجز العسكرية وفي الأرجاء عموماً. فالاحتلال يستثير غضب أجيال الفلسطينيين ويحرِّضهم بالتالي على محاولة التصدِّي له؛ بأدوات بدائية عاجزة. إنّ تلاميذ المدارس الذين قتلتهم قوات الاحتلال بالعشرات عند الحواجز شاهدوا بأعينهم ما يقترفه جيش الاحتلال من قتل واعتداءات واعتقالات تعسفية وأعمال ترويع وإذلال بحق شعبهم؛ وربما بحق أفراد من أسرهم أيضاً.

إنّ تجاهل الإعدامات الميدانية التي جرت حتى الآن يشجِّع جنود الاحتلال على تحريك أصابعهم الرشيقة لأجل صناعة المشهد ذاته كل عدّة أيّام؛ لفلسطينية ممدّدة أرضاً مع بقع الدم، أو لتلميذ يسقط صريعاً في طريق مدرسته، بمبرِّر جاهز مسبقاً تدفع به الرواية الدعائية المتكرِّرة كمحفوظات نمطية.

في فلسطين سيل ممتدّ من الدم المسفوح على الأرض، وهو يواصل طريقه مع مزيد من الضحايا الذين لا يكترث بهم العالم.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات