الجمعة 26/أبريل/2024

موجة مقاطعة (إسرائيل).. الأولمبياد نموذجا

عبد الله معروف

أقيمت أولمبياد طوكيو 2020 بعد تأخيرٍ دام عاماً كاملاً بسبب جائحة كورونا ليتم تسجيل هذه الدورة في التاريخ كأول دورةٍ يتم تأجيلها عاماً كاملاً بسبب جائحة صحية منذ إلغاء الدورات الأولمبية الصيفية والشتوية بسبب الحربين العالميتين الأولى والثانية أعوام.

لكن الأضواء هذا العام في العالم العربي، وعدد لا بأس به من وسائل الإعلام العالمية، ركزت على أحداث مقاطعة بعض اللاعبين العرب المشاركة في مباريات محددة بعد أن أوقعتهم القرعة أو ظروف الألعاب في مواجهة مع لاعبين إسرائيليين.

وتبرز في هذا العام ثلاثة أسماء أساسية في هذا الصدد: أولها لاعب الجودو الجزائري فتحي نورين الذي أوقعته القرعة في الأولمبياد في مواجهة اللاعب السوداني محمد عبد الرسول، على أن يواجه الفائز منهما اللاعب الإسرائيلي بوتبول طاهار، فما كان منه إلا أن أعلن انسحابه من المواجهة بالكامل حتى لا يواجه اللاعب الإسرائيلي طاهار، الأمر الذي أثار ضجة كبيرةً في الأولمبياد وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة عندما أعلن الاتحاد الدولي للجودو عن إيقاف نورين ومدربه عمار بن خليف وسحب اعتمادهما من اللجنة الأولمبية وإعادتهما إلى الجزائر. علماً بأن هذه لم تكن المرة الأولى التي يرفض فيها فتحي نورين مواجهة نفس اللاعب الإسرائيلي طاهار، حيث انسحب من بطولة العالم للجودو في طوكيو عام 2019 رفضاً لمواجهة طاهار.

وثانية هذه الحالات كانت للاعب الجودو السوداني محمد عبد الرسول الذي تأهل بانسحاب فتحي نورين لمواجهة اللاعب الإسرائيلي نفسه (بوتبول طاهار)، وبالفعل أجرى عملية الوزن اللازمة، ليفاجأ اللاعب الإسرائيلي عند بداية المباراة بعدم حضور اللاعب السوداني وانسحابه دون تعليق، ما أثار لغطاً كبيراً في الإعلام بسبب صمت اللجنة الأولمبية السودانية وعدم تعليقها على الموضوع، ولأن عبد الرسول يمثل السودان الذي انضم لاتفاق أبراهام مع إسرائيل وأعلن تطبيع علاقاته مع دولة الاحتلال. وهذا الأمر علقت عليه صحيفة (إسرائيل هايوم) اليمينية بالقول في نبرةٍ غاضبة إن هذا الانسحاب جاء على ما يبدو لتجنب مواجهة اللاعب الإسرائيلي بالفعل كما فعل فتحي نورين. وذلك بالرغم من ظهور بعض الأصوات الخجولة في وسائل التواصل الاجتماعي تدعي أن الانسحاب قد يكون لأسباب صحية.

وثالثة هذه الحالات كانت للاعبة الجودو السعودية تهاني القحطاني التي رفضت كل النداءات التي أثيرت في وسائل التواصل الاجتماعي ودعتها إلى الانسحاب ورفض مواجهة الإسرائيلية راز هيرشكو، وأصرت على مواجهتها مدعومةً بحملةٍ إعلامية لافتةٍ من عدد من الكتاب السعوديين المحسوبين على التيار الليبرالي، ومنيت في المباراة بخسارةٍ قاسية بـ11 نقطة مقابل لا شيء وودعت البطولة.

وللمزيد من الإثارة حتى خارج الأولمبياد أثار إعلان لاعب الفنون القتالية المختلطة اللبناني عبد الله منياتو انسحابه من بطولة العالم للفنون القتالية المختلطة المقامة في بلغاريا رفضاً لمنازلة لاعب إسرائيلي، حسب قرعة البطولة، ما أضفى المزيد من الإثارة وألقى المزيد من الضوء على حالات الانسحاب في الأولمبياد، خاصة مع إعلان اللاعب بوضوح أنه انسحب رفضاً للاعتراف بـ(إسرائيل).

من اللافت للنظر مراجعة ردود الفعل الشعبية والرسمية من الأطراف العربية والطرف الإسرائيلي على هذه الحالات، ففي حالة اللاعب الجزائري فتحي نورين، فقد استقبله الجزائريون في مطار الجزائر بالهتافات والترحيب الحار مع العلم الفلسطيني الذي توشح به اللاعب وهو يحيي الجماهير، وذلك على ما يبدو رداً على العقوبة القاسية التي تعرض لها نورين ومدربه، ومهاجمة وسائل الإعلام الغربية لموقفه بادعاء رفض إقحام السياسة في الرياضة، وهو ما ظهر في وسائل الإعلام كذلك في حالة اللاعب السوداني محمد عبد الرسول، واللاعب اللبناني عبد الله منياتو.

كما أن ردود الفعل الشعبية العربية التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي لهزيمة اللاعبة السعودية تهاني القحطاني المدوية أمام الإسرائيلية راز هيرشكو تنبئ عن سخطٍ شعبي عارم على إصرار هذه اللاعبة على المشاركة، بل ومصافحتها اللاعبة الإسرائيلية والتلويح معها للجمهور بعد هزيمتها في اللعبة، وعدم إقدامها حتى على تقليد لاعب الجودو المصري إسلام الشهابي الذي رفض مصافحة الإسرائيلي أور ساسون في أولمبياد ريو دي جانيرو عام 2016 في موقفٍ اعتبر سياسياً بامتياز.

وردود الفعل الشعبية هذه ليست مستغربةً في الحقيقة، فبينما انطلق الإعلام الغربي والجهات الرياضية الأولمبية في توزيع التصريحات يميناً ويساراً حول ضرورة وضع “السياسة” جانباً عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع لاعبين إسرائيليين، فإن اللجنة الأولمبية نفسها لم تكن بعيدةً عن التسييس في الحالة الإسرائيلية. فالأولمبياد الحالي في طوكيو شهد للمرة الأولى التنويه حرفياً بعملية ميونخ التي نفذتها منظمة “أيلول الأسود” ضد الفريق الأولمبي الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية في ميونخ عام 1972، وذلك خلال إعلان الوقوف دقيقة صمتٍ حداداً على وفيات الرياضيين الأولمبيين خلال حفل افتتاح الأولمبياد. إلا أن المنظمين لهذا الحفل الذين ركزوا على اللاعبين الإسرائيليين بالاسم، تجاهلوا في نفس الوقت الضحايا الذين سقطوا في اعتداءات وهجمات أخرى خلال الأولمبياد، مثل ضحايا الاعتداء الذي نفذه (إريك رودولف) بقنبلةٍ في أثناء أولمبياد أتلانتا عام 1996 وقُتِل فيه شخصان وجرح 111 آخرون، فبدا ذلك كأنه مجاملة لـ(إسرائيل) على حساب غيرها.

إن هذه الأحداث والاحتفاء الشعبي بنورين وعبد الرسول ومنياتو مقابل النقد اللاذع للقحطاني يؤكد أن شعوب المنطقة ما زالت رافضةً تماماً للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي بالكامل، حتى لو كانت المواقف الرسمية تحاول الدفع بالاتجاه المعاكس لذلك. ومن الواضح أن الشعوب العربية في المنطقة لا تلقي بالاً لمحاولات الإعلام الرسمي وكتّابه وأصواته على وسائل التواصل الاجتماعي تغيير قناعاتها تجاه (إسرائيل)، والدفع باتجاه تطبيع العلاقات الرياضية مع (إسرائيل)، بزعم أن المواجهة أفضل من الانسحاب، بالرغم من أن الانسحاب لا يعني الهزيمة في الحقيقة وإنما يشير إلى تجاهل وجود الإسرائيليين أصلاً وعدم إعطائهم اعترافاً بالوجود الطبيعي في المنطقة.

وأما (إسرائيل) فإنها أكثر من يفهم أبعاد هذا التجاهل، وهو ما يثير غضب الآلة الإعلامية الإسرائيلية الذي يعكس السخط الرسمي والشعبي لهذا التجاهل والمقاطعة التي تتعرض لها (إسرائيل). فصحيفتا (يديعوت أحرونوت) و(إسرائيل هايوم) عبرتا عن غضب شديد يسود الأوساط الإسرائيلية بسبب هذه المقاطعة، وذهبت أحرونوت لصب جام غضبها على اللجنة الأولمبية الدولية وحرضتها ضد أي لاعب يرفض مواجهة الإسرائيليين حتى “لا تجعل نفسها أضحوكة”، وهذا يدل بوضوح على مدى تأثر (إسرائيل) بمثل هذه المواقف وأثرها في عدم منح (إسرائيل) شرعية الوجود والمنافسة في المنطقة. وهذا ما يظهر بوضوح في التصرفات الإسرائيلية الحادة والمتسمة بالمبالغة تجاه أي مقاطعةٍ تتعرض لها كما حدث أخيراً مع شركة (بن أند جيري) للمثلجات، التي تتعرض حالياً لهجمةٍ إسرائيلية عاتية في الإعلام على أعلى المستويات نتيجة قرارها منع بيع منتجاتها في المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الضفة الغربية، والمصنفة دولياً بالإجماع مناطق تحت الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي.

كل هذا يدل على أن خطواتٍ تبدو صغيرةً كمقاطعة لاعب إسرائيلي في بطولةٍ رياضية لها في الحقيقة آثار كبيرة جداً على الجانب الإسرائيلي، مهما حاول المطبعون التقليل من حجمها أو الادعاء بضرورة الفصل بين السياسي وغيره، ففي الحالة الإسرائيلية لا يمكن الفصل بين السياسة والرياضة أو الاقتصاد أو غيرها.. ولو كان أحد ينبغي عليه الفصل بين الأمرين لكانت اللجنة الأولمبية في حفل افتتاح أولمبياد طوكيو 2020.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات