السبت 27/أبريل/2024

البرعي شيخ الزريبة وليّ الرمال الكردفانية ووصية فلسطين!

د. أسامة الأشقر

عندما اقتحم الإرهابي القاتل إرييل شارون ساحات المسجد الأقصى عام 2000 ثار أهل فلسطين في انتفاضة الأقصى الشهيرة التي استشهد فيها الآلاف بيد جيش الاحتلال “الإسرائيلي”، وانتفضت الأمة تساند نضال أهل فلسطين، يومها كنا في السودان ننظم الفعاليات والمناشط مع إخواننا وأخواتنا في السودان من كل حزب وطائفة، فاتصل أحد الأعيان المحبين بالشيخ عبد الرحيم محمد وقيع الله الملقب بالبرعي شيخ الزريبة، فهرع إلينا مجيباً وركب السيارة من محلته البعيدة في شمال كردفان لأكثر من ثماني ساعات في طريق وعرة، وقادها بنفسه على غير العادة منه رغم أوجاعه وكبر سنّه، ووصل إلينا متأخراً في الليل، وحمل معه نفراً من تلاميذه، ووضع بين أيدي القائمين على النشاط في مركز الشــهيـــد الزبير محمد صالح للمؤتمرات في شارع القيادة العامة تبرعات مسِيده، ثم قام خطيباً، فأكثر من الدعاء بالنصر لكل من يقاتل في أرض الإسراء، وأوصى بالثبات وصدق النية في القتال، وأوصى محبيه ومريديه أن يكونوا سنداً وعوناً لأهل فلسطين الأمناء على القدس.

كان الشيخ البرعي شيخاً للطريقة السمانية، يعيش في بادية عريضة في شمال كردفان بغرب السودان، ويحتشد في معهد ومسِيده آلاف الطلاب يتلقون القرآن، ويزوره الآلاف يطلبون منه الدعاء ويلتمسون منه البركة التي يعتقدونها فيه، وأكثر زوّاره من عامة الناس ذوي الأمراض المستعصية أو النفسية، فيرقيهم واحداً واحداً، ويزعمون أن رقيته مجرّبة وعجيبة الأثر، وأن فاتحته قوية؛ وقد كان من أحد زملائنا في العمل أن أصيبت ابنته باللقوة فعوِجت رقبتها وانقلب وجهها، ولم تفلح معها معالجات الأطباء، فذهبت معه إلى الشيخ أثناء تعميره لمسجده الجامع في حي المجاهدين في الخرطوم قرب جامعة إفريقيا العالمية قبل أن تعمر المنطقة وتمتد، وكان قد بنى راكوبة “عريشة” في أرض خلاء هناك، وأقام نوبات الذكر بالطبل والطار فاحتشد المئات يتبرعون، والآلاف حولهم في صفوف منتظمة يتمايلون على ذكر لفظ الجلالة في خشوع مهيب ؛ وقد تغير حال الفتاة وشعرت بالتحسن من أول رقية، ولم يمض أسبوع حتى عاد وجهها كما كان.

كان الشيخ فصيحاً فقيهاً، وكان شاعراً سلس العبارة ينوّع شعره بين الفصيح والعامي الدارج على ألسنة الناس، وإذا نظم قصيدته تلقّاها “حِيرانه” ولحنوها وأنشدوها في مجالس المديح، وكان يراعي أن تكون الكلمات مفهومة تناسب واقع الناس ومصطلحاتهم الدنيوية لإلفات الأنظار إلى ذكر الله.

كان الشيخ ذا نكتة محببة وتواضع جمّ، وكان يضحك من اعتقاد الناس فيه أنه يكشف الكربة ويشفي المرض، وحكى لنا ذات مرة أنه كان يخوض بسيارته موضعاً موحلاً من أثر المطر حتى غاصت في الوحل، فرآهم أعرابي من بعيد فقدِم عليهم، وساعدهم في جرّ السيارة بجمله، وقال لهم: لو كان الشيخ البرعي معاكم لأخرج هذه السيارة بالفاتحة دون أي جهد (يشيل الفاتحة)، فضحك الشيخ ومرافقوه، ولم يصدق هذا الأعرابي أنه الشيخ نفسه الذي لم يستطع أن يحرر السيارة من الوحل إلا بمساعدته.

ولمّا اشتد عليه المرض بعد عودته من مصر وزياراته لأكابر رجال التصوف فيها من الأقدمين، أصيب بحصوات في الحالب أقضّت مضجعه وشغلت روحه، وقُررت له عملية، فنظِم قصيدة شهيرة عُرفت بـ”مصر المؤمّنة” ذكر فيها الأولياء الذين زراهم، فحدثني أحد الأطباء الذين كانوا في التشخيص أن الحصوات نزلت دون احتياج للعملية.

وكثيراً ما يبالغ الناس في كرامات الشيخ، ويتزيّدون فيها لشيوع شهرته وعزلته في تلك البوادي الرملية في زهدٍ وخدمة للناس دون أجرٍ أو غرض؛ وأشهر القصص المتداولة عن طائرة هيلكوبتر رابضة قرب الزريبة بلا حراك فتارة يقولون إنها طائرة الرئيس نميري أو هاشم العطا القيادي الشيوعي التي تعطّلت لمّا دعا عليها الشيخ عام 1969، وتارة يقولون هي الطائرة التي كادت أن تسقط وهي في الجو، فجرّ الشيخ سبحته فقال طيروا بها حتى تصل الزريبة ولن يصيبكم مكروه، وبعضهم يقول إن الحادثة تكررت مرتين… وفي الجملة فهي مثال على “الكرامات التي لا تعدّ”  وأنه “غوث زمانه” كما يقول مريدوه.

ولد الشيخ في الزريبة التي سميت بذلك الاسم لأنها موضع قديم كانت تربط فيها قطعان الإبل والبقر والغنم والماعز، وتربض فيه أيام مملكة الفونج “الدولة السنارية” أو السلطنة الزرقاء، في بادية شمال كردفان عام 1923م من أب ينتمي إلى قبيلة الكواهلة القرشية أحفاد الزبير بن العوام، وأمّ جَعليّة تعود في نسبها إلى العباس بن عبد المطلب.

توفي الشيخ في فبراير 2005 وشيعه الآلاف في الخرطوم قبل أن ينقل جثمانه بالطائرة إلى الزريبة في تشييع مهيب حزين، وكان تولى خلافة سجادة الطريقة السمانية في الزريبة وهو شاب صغير بعمر 21 سنة عام 1944 بعد وفاة والده الشيخ محمد وقيع الله قتيلاً مطعوناً وهو في الثامنة والسبعين من عمره.

كان الشيخ من مدرسة في التصوف مشهورة ومعروفة بالتبرك بالأنبياء والأولياء، وأن بركتهم مستمدة من الله مانح البركة باتصالهم به، وأن القربَى منهم داعية إلى سرعة الاستجابة من الله، ولذلك كان يسعى لزياراتهم في أي بلد نزل فيه في الأردن والعراق والحجاز ومصر والمغرب، يقول في أحد دواوينه الكثيرة:

اذكرْ حديث الصالحين وسمِّهم   فبذكرهم تتنزّل الرحمـــاتُ
واذكر كراماتهم تنل بركاتهم   وقبورهم زرْها إذا هم ماتوا

ولم يكن البرعي يردّ على منتقديه ممن يرمونه بالشرك من المدرسة السلفية المقابلة، ولم يكن يتهجّم عليهم أو يدعو إلى جدالهم لاسيما أنه كان في بادية بعيدة عن تأثيرهم حيث إن أكثرهم يدعو إلى أفكاره السلفية في منابرهم بالمدن والحواضر؛ ثم لمّا رأى نفوذهم قرر أن يكون في قلب العاصمة بمسيده الكبير، ونشَر معاهده العلمية في مواضع كثيرة ينشر ما يظنه المعتقد الصحيح والطريقة الفاضلة، ومع ذلك فقد كانت وصية الشيخ الدائمة لمريديه أن يعفو عمن ظلمهم، أو يصلوا من قطعهم، ويعطوا من حرمهم، ويكافئوا السيئة بالحسنة، وأن يعرضوا عن الجاهل.

كان البرعي يرى أن الذكر طُرق، وأن الطريق يحتاج إلى دليل، وأن الدليل هو الشيخ العالم المرشد الذي يفني نفسه للوصول بنفسه ومريديه إلى أبواب المحبة المنجية عن معرفة والتزام؛ وكان شديد الزهد في الدنيا، وقد سمعتُه يقول مرة: إن الله أمرنا بعبادته ووعدنا برزقه، وقد وجدنا ذلك حيث نحن، يأتينا رزقنا كما وعد من حيث لا نحتسب، ولا نطلب أكثر مما أعطانا الله.

وأثناء تجوالي في رمال بادية كردفان الحمراء بين أشجار الطلح ومراعي المرخ كنت أشعر أن الشيخ حاضر في كل مكان أنزل فيه، حيث أجد ذكره على كل لسان مهما ابتعدنا في الفيافي، فكنتُ أسميه “وليّ الرمال” وأحب وصفه بذلك، وأكثر ما أحبه فيه موقفه الجليل من القدس وجـ ـهـ ـاد فلسطين!.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

شهيدان باشتباك مع الاحتلال غربي جنين

شهيدان باشتباك مع الاحتلال غربي جنين

جنين - المركز الفلسطيني للإعلام استشهد شابان وأصيب آخران، فجر اليوم السبت، برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، قرب حاجز "سالم" العسكري غربي مدينة جنين،...