الإثنين 17/يونيو/2024

قراءة جيو-سياسية لتطبيع ابن زايد مع «إسرائيل»

سعيد الشهابي

يوم أسود في تاريخ المنطقة، وعنوان آخر للسقوط والانحدار السياسي والقيمي. ومدخل جديد للصراع الداخلي في أوساط الأمة. ذلك ما يعنيه قرار دولة الإمارات إقامة علاقات دبلوماسية علنا مع الكيان الإسرائيلي.

هذا القرار الذي أعلنه الرئيس الأمريكي في إحدى تغريداته يوم الخميس الماضي ثم أكده محمد بن زايد، يعد تحديا لعدد من الأمور: أولها: منطق الحق الذي يرفض الاعتراف بالظلم والنهب والاستيلاء على حقوق الآخرين، ابتداء بحق الحياة، مرورا بالوطن وصولا إلى الحرية والكرامة. ثانيها: العرب والمسلمون قاطبة، فهناك إجماع لم يهتز برغم العمل الحثيث من قوى الثورة المضادة، على قداسة قضية فلسطين خصوصا أنها أرض الرسالات وملتقى الأديان وحاضنة المسجد الأقصى والأرض التي باركها الله في قرآنه المجيد. ثالثها: أهل فلسطين، كبشر وشعب وأرض وتاريخ ونضال. رابعها: القانون الدولي الذي كان مرجعا لقرارات دولية تجرّم الاحتلال وتقر حق العودة والذي كان في حقبة ما سندا لقرار دولي يساوي بين الصهيونية والعنصرية. خامسها: الجامعة العربية التي كانت تلم كلمة العرب وتتصدى، ولو سياسيا ونظريا، للاحتلال الإسرائيلي وتجمع قدر الإمكان الموقف العربي وتحتضن قضية فلسطين كقضية محورية جامعة. سادسها: مجلس التعاون الخليجي الذي يفترض أن يكون جامعا لدول الخليج الست ومنسقا لمواقفها، والذي يفترض كذلك أن يتوافق في مثل هذه القرارات المهمة. سابعها: مشاعر الأمة وأحاسيسها وكرامتها. فبرغم هزائمها العسكرية المتكررة إلا أنها صمدت بوجه الاحتلال عقودا وأفرزت مجموعات مقاومة حطمت كبرياء الاحتلال وكشفت هشاشته عند مواجهة أبناء الأمة. ثامنها: منح رئيس وزراء العدو دعاية مجانية برغم تحديه المتواصل للأمة والشعب الفلسطيني والموقف الدولي الرسمي، وتطرفه اليميني الذي شجع المتطرفين على اقتحام باحات المسجد الأقصى يوميا وأقدم على ما لم يفعله سابقوه بضم أراض من الضفة للكيان المحتل.

رسميا ما يزال هناك «صراع عربي ـ إسرائيلي». ورسميا أيضا ما يزال هناك «مقاطعة عربية» للمنتجات الإسرائيلية. وطوال ثلاثة أرباع القرن بقي الصراع قائما، يشتد تارة ويخفت أخرى، ولكنه لم يختف يوما، ولا يتوقع أن يتلاشى تماما لسبب بسيط: أن الحق ينتصر والباطل مهزوم وإن طال به الأمد. فليس لدى «إسرائيل» من مستلزمات الصراع سوى القوة العسكرية والأمنية، وتفتقد شرعية الحق وسند القانون والحجة المنطقية. فما الذي دفع حكام الإمارات لتجاوز «الخطوط الحمراء» المرتبطة بالقضية المحورية للأمة، لتتصدر قطار التطبيع مع كيان لم يخف أطماعه التوسعية يوما.

فقد أعلن احتلاله الكامل لمدينة القدس، واستدرج أمريكا لنقل سفارتها إلى المدينة المقدسة، ويواصل اتصالاته مع دول أخرى للقيام بخطوة مماثلة، يعتدي على الدول العربية وينتهك سيادتها بشكل مستمر (تونس، مصر، لبنان، سوريا، العراق). ومؤخرا أعلن الكيان على لسان رئيس وزرائه قرار ضم مرتفعات الجولان متحديا القرارات الدولية وفي مقدمتها 242 و 338. وفي غياب الموقف العربي أو الدولي الرادع أعلن قراره ضم أراض من الضفة الغربية أيضا. ويتذاكى حكام الإمارات عندما يدعون أن إقامة العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» جاء بعد أن حصلوا على وعود إسرائيلية بـ «تعليق» قرار الضم، وليس إلغاءه. ولكن المسؤولين الإسرائيليين أعلنوا على الفور أنهم لم يعطوا وعودا لأحد بوقف الضم. وتجدر الإشارة إلى أن من غير المستبعد أن يكون قرار إقامة العلاقات جاء انتقاما من الفلسطينيين الذين أعلنوا قبل أسابيع رفض «مساعدات» إماراتية وصلت عبر مطار بن غوريون. فقد فهموا، كما فهم غيرهم، أن تلك «المعونات» استخدمت لتغطية تسيير الرحلات الجوية بين أبو ظبي و”تل أبيب”. يومها قال الفلسطينيون بإباء: نرفض المساعدات التي تأتي عبر الاحتلال، مؤكدين أن البطون الجائعة أكثر عفة وكرامة وإباء من ذوي الأجسام الممتلئة التي تختزن أرواحا خالية من المبادئ والقيم.

من أين بدأ هذا الصلف السياسي الذي يسعى لتحقيق أحلام رموزه بتحدي الأمة وثوابتها والتعدي على قيمها ومقدساتها؟ ربما ليس جديدا أن حكام الإمارات أكثر الحكام العرب استهدافا للمشروع التحرري العربي ـ الإسلامي، فلم يطيقوا يوما الرموز الإسلامية خصوصا المحسوبة على اتجاه «الإسلام السياسي». ولكن كان هناك توقع بأن يكون اغتيال الشهيد الفلسطيني، محمود المبحوح، قبل عشرة أعوام، بأحد فنادق دبي دافعا لموقف إماراتي متشدد إزاء الكيان الإسرائيلي الذي انتهك سيادتها، خصوصا بعد أن ثبت ضلوع جهاز «الموساد» في جريمة الاغتيال. يومها ارتفعت أصوات إماراتية تهدد بملاحقة القتلة أينما كانوا، ولكن ما أن اتضحت هويتهم، وأنهم إسرائيليون يحملون جوازات سفر مزورة عندما ارتكبوا الجريمة عن سبق إصرار وترصد، حتى تغيرت سياسة الدولة بشكل غير مسبوق. وفجأة بدأ حكامها يقتربون تدريجيا من الاحتلال. من الصعب تحديد نقطة البدء ولكن ربما كان «الربيع العربي» نقطة التحول في الموقف. فمنذ ذلك الوقت تشكل تحالف «قوى الثورة المضادة» وأصبح للإمارات لسان طويل ودور يفوق أضعافا حجمها السياسي الطبيعي. فهي لا تملك من مقومات القيادة السياسية الإقليمية الكثير خصوصا مع ضآلة سكانها وحداثة وجودها السياسي الذي لم يبلغ الخمسين عاما حتى الآن.

يمكن القول إن السنوات العشر الأخيرة كانت حقبة تحول إماراتي غير مسبوقة. فمنذ وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان 2004 انتقلت السلطة إلى ابنه الأكبر خليفة الذي توعكت صحته فاستلم أخوه، محمد بن زايد، الحكم منذ أكثر من عشرة أعوام. وقد تخرج من كلية سانت هيرست العسكرية البريطانية، الأمر الذي جعل تفكيره «واقعيا» و «براغماتيا» وفق الرؤى البريطانية للسياسة. وقد تميز بطموحه الشخصي الواسع الذي دفعه للبحث عن سبل توسيع نفوذه السياسي الشخصي الذي اقتضى كذلك توسيع الدور الإماراتي إقليميا ودوليا. ودفعته نظرته «البراغماتية» لتجاوز جريمة اغتيال المبحوح واستخدامها طريقا لمد الجسور مع حكومة نتنياهو. ومن المؤكد أن تربيته العسكرية في المؤسسة البريطانية المذكورة أطرت تفكيره الذي أبعده تدريجيا عن ثقافته الموروثة من محيطه العربي والإسلامي، وزجت به في دهاليز الدبلوماسية المؤسسة على الانتهازية وتضخم الذات. وفي غياب الموروث السياسي العصري القائم على الحرية واحترام الحقوق والممارسة السياسية، أصبح أكثر تحسسا من أي تحرك داخلي يطالب بالحرية والانفتاح والحقوق. فسرعان ما انقض على معارضيه واعتقلهم ونكل بهم وأسقط جنسياتهم ونفى بعضهم إلى دول قاصية مثل تايلاندا. وفي غياب التوازن السياسي بين الحكم والمعارضة تدهورت الأوضاع الداخلية خصوصا في مجال حقوق الإنسان، وقضى بعض السجناء نحبهم وراء القضبان.

ومن المؤكد أن شعور محمد بن زايد بالعزلة السياسية في صفوف الطبقة المثقفة الإماراتية دفعه للاعتماد على الخبرات الأمنية الإسرائيلية التي بدأت تشق طريقها إلى الإمارات بعد اغتيال المبحوح. وتواصلت مغامرات بن زايد، فتورط في قضايا أربع كل منها أكبر من الأخرى. أولى هذه القضايا المشاركة مع السعودية في اجتياح البحرين في عام 2011 لضرب واحدة من ثورات الربيع العربي. ولم تحدث ردة فعل مناسبة ضد هذا التدخل الغاشم الذي كان مدعوما من التحالف الإنكلو-أمريكي بالإضافة للدعم الإسرائيلي. وفي العام 2017 استهدف التحالف السعودي ـ الإماراتي دولة قطر بسبب علاقاتها الخارجية مع تركيا وإيران، وتفاهمها مع جماعة الإخوان المسلمين. وأخيرا جاءت خطوة إعلان التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.

ماذا يحدث في أبو ظبي؟ وما مدى قوة محمد بن زايد الذي كسر النواميس والأعراف سواء على مستوى التحالف السباعي مع المشيخات الصغرى التي تشكل بمجموعها دولة الإمارات أم على الصعيد الإقليمي أم مجلس التعاون أم الجامعة العربية أم أمة العرب والمسلمين. فاندفاع محمد بن زايد لمبادرات خطيرة كاستهداف قطر أو الحرب على اليمن أو دعم خليفة حفتر لمنع استقرار ليبيا، تلك الخطوات تعبر عن اندفاع متغطرس سيرتد سلبا على المنطقة ويؤدي لأزمات خطيرة. هذه النظرة تدعمها سياسات محمد بن زايد التي كثيرا ما أدت لاضطراب ذهني لتفسير بعض الخطوات ذات الأبعاد الخطيرة. فماذا يعني استقبال خوان كارلوس، ملك أسبانيا السابق الذي يواجه قضايا قضائية بسبب رشاوى من السعودية والبحرين ومنحه الإقامة في الإمارات؟ برغم الهدوء الذي يحيط بخطوات بن زايد، إلا أن تبعاتها على المنطقة لن تكون سهلة.

(القدس العربي اللندنية)

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

صرخة إلى كل المعمورة.. شمال غزة يموت جوعًا

صرخة إلى كل المعمورة.. شمال غزة يموت جوعًا

غزة -المركز الفلسطيني للإعلامبينما يحتفل المسلمون في أصقاع المعمورة بعيد الأضحى المبارك، يئن سكان شمال قطاع غزة تحت وطأة المجاعة المستمرة، في حين...

يونيسيف: غزة تشهد حربا على الأطفال

يونيسيف: غزة تشهد حربا على الأطفال

غزة - المركز الفلسطيني للإعلام قال المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) جيمس إلدر إن القتل والدمار الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في...