الجمعة 26/أبريل/2024

الأسئلة الخاطئة عن المقاومة في الضفة الغربية

ساري عرابي

مدخل

بعد الأحداث الأخيرة في الضفة الغربية، والتي كان منها استشهاد المطارد أشرف نعالوة، وسلسلة عمليات في منطقة رام الله، بالإضافة إلى عملية طعن في القدس.. صار السؤال الشائع في الإعلام الفلسطيني والعربي؛ عن احتمالات تحوّل هذه الأحداث إلى انتفاضة واسعة، وكان فحوى السؤال يفيد تصوّرًا بأن “الانتفاضة” هي الشكل الطبيعي للمقاومة في الضفّة الغربية، وما سوى ذلك هو استثناء، ولعل مثل هذا التصور من الأسباب التي دعت بعض الجهات الفلسطينية لتسمية إحدى الهبّات في السنوات الأخيرة بـ”الانتفاضة” أعني بذلك “هبّة القدس” في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وعلى أيّ حال فإنّ تزامن الأحداث الأخيرة وكثافتها، مع اقتحام الاحتلال الموسع لمدينة رام الله، وحصاره المشدّد عليها.. عزّز من حضور هذا السؤال.

مصطلح الانتفاضة عند الفلسطينيين؛ يحيل بالتأكيد إلى الحدثين الكبيرين، انتفاضة كانون الأول/ ديسمبر 1987، وانتفاضة الأقصى تشرين الأول/ أكتوبر 2000، ومع الاختلافات الواسعة في السمات والشروط الموضوعية بين الحدثين، فإنّ الجامع بينهما، هو الشمول والسعة والاستمرارية، من جهة الشرائح والأفراد المنخرطين في الحدث الكفاحي، ومن جهة الجغرافيا التي يغطيها الحدث، وكذلك من جهة الدور الفصائلي، وبالتأكيد من جهة الاستمرارية الزمنية الطويلة، ويمكن أن نضيف عمق الحدث وسلوك الاحتلال كذلك في اتساعه وشراسته، وقد ظلّت انتفاضة 1987 يُطلق عليها “الانتفاضة” هكذا مجرّدة، إلى أن صارت “الانتفاضة الأولى” بعد انفجار “انتفاضة الأقصى” التي صارت بدورها الانتفاضة الثانية، وبالتأكيد كان لدى الفلسطينيين رغبة في إعادة إنتاج تسمية ملحمتهم الكفاحية الأثيرة، أي انتفاضة العام 1987، فمنحوا اسمها لانتفاضة الأقصى.

لو قدّرنا عمر الانتفاضتين الأساسي بعشر سنوات، باعتبار خمسة لكل منهما، فإنّ ذلك يعني أنّ المقاومة في صورة الانتفاضة في الضفة الغربية والقدس، هي عشر سنوات، من أصل 51 عامًا، هي عمر الاحتلال في هذه المنطقة منذ العام 1967 وإلى الآن، ولو قلنا إنّ الانتفاضة أصل قد قطعه طارئ وهو توقيع اتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية (وهو طارئ فعلاً وإن طال واستقرّ) فإنّ ذلك لا يعني أبدًا أنّ الأصل المقاوم هو الانتفاضة، فطوال عشرين عامًا منذ العام 1967 وإلى العام 1987 لم تكن المقاومة داخل الأرض المحتلة لا في الضفّة ولا في غزّة متجسّدة في صورة الانتفاضة، كما أن تاريخ المقاومة في غزّة ليس تاريخًا من الحروب.

لم يكن هذا التصوّر عن الشكل المقاوم الواجب في الضفّة الغربية وليد تجربة الانتفاضة الأولى، فقد كانت حركة فتح في العام 1967 قد تصوّرت إمكانية بناء نموذج ثوري واسع في الضفّة الغربية وغزّة على غرار ثورة العام 1936، وذلك بتحويل مجموع الفلسطينيين إلى حاضنة شعبية ضخمة تتغذّى منها شبكة سرّية واسعة في القرى والمدن تعظّم من الوجود التنظيمي للدوريات والخلايا التي سبق وأسستها الحركة، وعلى نحو متصاعد تتطور فيه القواعد إلى مناطق شبه محرّرة وصولاً إلى طرد الاحتلال المتبقي في المدن والطرقات الرئيسة، بيد أنّ الذي جرى هو تفكيك الاحتلال السريع لتلك الخلايا التي زرعتها فتح والدوريات التي أدخلتها!

وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ تاريخ المقاومة في الضفة الغربية، هو تاريخ من المحاولات والفعل، الذي قد يتصاعد ليأخذ ذلك الشكل الشامل والواسع المُسمّى انتفاضة، وقد يأخذ ما هو دونه سعة واستمرارية مما يُسمّى هبّة، وقد يقتصر على أعمال متفرقة، دون أن نغفل عنصر المحاولة والفكرة طوال الوقت.

والحاصل أنّ الفلسطينيين قد تمكنوا من إنجاز ذلك النموذج الذي حلُم به بعض الفلسطينيين منذ الاحتلال عام 1967، وكان نجاحهم في حكم المستحيل حين النظر إلى الواقع الجيوسياسي، فالاستمرار على وتيرة واحدة من السعة والشمول ضمن طبائع الاستعمار الصهيوني يحتاج جغرافيا أوسع، وعدد سكّان أكبر، والأهم إمكانية تعزيز صمود الناس بالدعم الخلفي من الدول العربية المحيطة، بيد أنّ هذا النموذج لم يكن الأصل الذي تتجسّد فيه المقاومة، وإنما المقاومة كانت تتجسد دائمًا فيما هو ممكن بحسب الشروط الموضوعية الحاكمة.

في دواعي الأسئلة الراهنة
بالإضافة إلى ما سبق، يمكننا الحديث عن عاملين عزّزا من السؤال عن إمكانية انفتاح الأحداث في الضفة إلى انتفاضة واسعة، وفي تعبير أدق، عن الحُلم في إمكانية إعادة إنتاج هذا النموذج، هذان العاملان هما الثورات العربية، وسلسلة الحروب والمواجهات في قطاع غزّة.

انتفاضة الأقصى التي خاضها الفلسطينيون في وقت واحد وعنفوان واحد في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ولجملة ظروف متداخلة انحسرت عن الضفة حتى انتهت، لتحافظ على وجودها في غزّة في شكل بنية عسكرية نظامية تتبع الفصائل، ولاسيما حركة حماس، التي استقلّت فيما بعد بإدارة غزّة بعد الانقسام الفلسطيني، وبالإضافة للظروف الموضوعية المختلفة في الضفّة من حيث هي، فإنّ اختلاف السياسات بين إدارتي المنطقتين (الضفة/ السلطة، وغزّة/ حماس) أفضى إلى اختلاف المشهد النضالي تمامًا، ومن صور هذا الاختلاف المشهدية المكثّفة للحرب في غزّة، بينما لا يمكن إنتاج مثل هذه المشهدية في الضفّة.

أمّا الثورات العربية، فقد اتسمت كذلك بمشهدية متلفزة تقوم على إبراز الجموع الحاشدة المستمرّة في احتشادها، ومع أنّ المظاهرات والحشود تشكّل جزءًا مهمًّا من ذاكرة الفلسطينيين ووعيهم، إلا أنّ ثمّة تغيرات عميقة لا تجعل من مثل هذه المشهدية ممكنة بسهولة في الضفة، أولاً لخروج الاحتلال الفيزيائي من داخل المدن والتجمعات الكبرى للفلسطينيين، ولأنّ الإدارة المباشرة تعود للسلطة، فتصير عملية الزحف إلى نقاط الاحتكاك بالاحتلال مكلفة وغير ذات جدوى سريعة وواضحة، بينما الاحتشاد داخل المدن يشكل احتجاجًا على السلطة أكثر مما هو على الاحتلال، فإذا أضيف إلى ذلك التحولات الاجتماعية والسياسية التي خلقتها السلطة من بعد الانقسام، وكان من ضمنها تفكيك الفصائل وإعادة تشكيل حركة فتح، فإنّ إنتاج مشهدية واسعة كمشهدية الثورات العربية، ليس ممكنًا في ضوء الظرف الموضوعي الراهن.

هذان العاملان دفعا للتصوّر بأنّ الحدث في الضفة لا ينبغي أن يقلّ عنهما في مشهديته، وهو أمر انعكس سلبًا على قراءة الأحداث في الضفة وإعطائها حجمها الصحيح والمهم، وحتى على تغطيتها إعلاميًّا، فعشرات المواجهات المتفرقة يوميًّا لا تُغطى ولا ينظر لها ما دامت لا تتسم بالحشد الواسع المستمر، وهنا ينبغي التذكير، بأنّ تاريخ الشعوب العربية في نضالها ليس تاريخًا من الثورات والحشود، وكذلك تاريخ غزّة ليس تاريخًا من الحروب، وتاريخ الضفّة لن يكون تاريخًا من الانتفاضات.

في التصوّر الصحيح لما يجري
إنّ الحدث الأخير، أي تزامن عدد من العمليات وارتقاء الشهداء، لم يكن الأول في السنوات الأربع الأخيرة، فمنذ أواسط العام 2014 وحتى الآن، قد تكرّر مثل هذا الحدث عدّة مرّات، وامتازت بعض السنوات بعدد كبير من الأعمال الفرديّة المكثفة والناجعة، وخلال هذه الفترة حصلت عدّة هبّات اتسعت في بعض الأوقات، وانحصرت في مدن بعينها في أوقات أخرى، وتخلّلها أعمال مقاومة فردية ومنظمة، وعودة حالة المطارد الفلسطيني، وشكّلت هذه السنوات الأربع بما فيها من أعمال مقاومة، قلقًا واضحًا للاحتلال، دون أن تتحوّل بالتأكيد إلى انتفاضة تستغرق الفلسطينيين بشرًا وجغرافيا، لأنّ شرط الاتساع لم يتحقق، ولأن سياسات التسكين والاحتواء ما تزال قويّة، لكنّ السؤال: كيف يمكن إغفال ما في هذه السنوات الأربع من مقاومة متعددة الأشكال ما دامت تلك الأشكال دون الشكل المرغوب! أي دون المشهديات الواسعة والمفتوحة؟! إنّ الأسئلة الخاطئة، والتصورات الخاطئة، تؤدي في هذه الحالة إلى بخس الناس أشياءهم.

لو عدنا بالذاكرة إلى السنوات الفاصلة بين دخول السلطة الفلسطينية وانفجار الانتفاضة الثانية، فإنّنا سوف نلاحظ تراجع وتآكل العمل المقاوم، وانهيار فصائل المقاومة بفعل الاستهداف المزدوج والمركز، مع حدوث أعمال متقطعة من العمل المقاوم تنطلق من الضفة أو من غزّة، وتقف خلفها حماس ثم الجهاد الإسلامي، وما عدا ذلك، فلم يكن المشهد مشهد انتفاضة ولا مشهد حرب.

ما يمكن قوله الآن إنّ ظروف الضفّة الغربية أصعب عمّا كان عليه حالها وحال غزّة بعد دخول السلطة، إلا أنّ حجم العمل المقاوم في الضفّة الآن بأشكاله المتعددة أكبر مما كان عليه في تلك الفترة، ولكن دويّ العمليات الاستشهادية وقتها، وعدم وجود نموذج يُقاس به (حرب، ثورة) أبرَزَ تلك الأعمال المتقطعة التي توسّطت بين دخول السلطة وقيام الانتفاضة الثانية.

والحقيقة أنّ ما ينبغي أن تُقاس به المقاومة بأشكالها المتعددة في الضفّة في هذه الفترة هو المقاومة في الضفة وغزّة بعد دخول السلطة وقبل قيام الانتفاضة الثانية، لاشتراك المرحلتين بسمات متشابهة، ولاسيما قوّة السلطة ونهجها المعارض للعمل المقاوم وضعف فصائل المقاومة، إذ ستظهر المقاومة الآن أكبر وأوسع مما كانت عليه في تلك الفترة، أمّا عن احتمالات الاتساع والتطور فهي مرهونة بشروط موضوعية متعددة، من أهمها دور السلطة وموقفها.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

إصابة بن غفير بحادث سير

إصابة بن غفير بحادث سير

القدس المحتلة – المركز الفلسطيني للإعلام أصيب وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، اليوم الجمعة، إثر تعرضه لحادث سير....