الخميس 03/أكتوبر/2024

مفاوضات التهدئة.. مساراتها واحتمالاتها

مفاوضات التهدئة.. مساراتها واحتمالاتها

أصدر مركز رؤية للتنمية السياسية، دراسة تناولت مسار التهدئة ومساراتها واحتمالاتها، في ضوء الحراك السياسي الحاصل في قطاع غزة.

وفيما يلي نص الدراسة:

تمهيد.. حراك سياسي مكثّف
تصاعد الحراك السياسي في الشهور الأخيرة بخصوص قطاع غزّة، وأخذ شكلًا مركّبًا من جملة أحداث ومعطيات، منها استمرار مسيرات العودة في القطاع، التي لم تزل في حالة من التجدد والتنوع، كان آخرها ما أطلق عليه “الإرباك الليلي”،1 ومنها أيضا الجهود التي رعتها القاهرة طوال الشهور الثلاث الأخيرة لإنجاز تهدئة بين المقاومة والاحتلال، وما يتصل بذلك من محاولات لإسناد تلك التهدئة إلى مصالحة وطنية، وتقديم عدد من الخطط والمقترحات في هذا الإطار، منها مقترحات للمبعوث الخاص للأمم المتحدة لعملية التسوية في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف2.

وأثناء ذلك، ولأول مرة، اجتمع المكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزّة، بعد دخول أعضائه من الخارج إلى القطاع عبر معبر رفح بالتنسيق مع القاهرة.3 وقد تخلل هذا الحراك السياسي صدامات مسلحة بين المقاومة والاحتلال،4 انتهت إلى وقف متبادل لإطلاق النار. بيد أنّ كل هذه الجهود لم تسفر عن نتيجة سياسية، لا على صعيد التهدئة، ولا على صعيد المصالحة؛ وذلك بسبب تضارب المواقف حيال هذه الملفات بين حركتي حماس وفتح،5 والضبابية التي تحيط بالتعامل المصري مع هذه الملفات.

وبالرغم من ذلك، فإنّ هذا الحراك لم يتوقف. فقد استمرت الجهود المصرية لتثبيت التهدئة على أساس تفاهمات وقف إطلاق النار، الذي تلا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة عام 2014،6 واستضافت حركة حماس في قطاع غزّة وفدًا أمنيًّا مصريًّا جاء في إطار هذا الحراك السياسي نفسه7.

تلقي هذه الورقة الضوء على سياقات تَجدد فكرة التهدئة بين المقاومة في قطاع غزة وبين الاحتلال، وما يتصل بتلك الفكرة من محاولاتٍ مستمرة لإحياء المصالحة الفلسطينية، ومجمل المواقف الفلسطينية والإقليمية والدولية من كلا الموضوعين، والاحتمالات التي قد يؤول إليها الحراك السياسي القائم بهذا الصدد، والدوافع المحتملة لمجمل الأطراف ذات الصلة.

التهدئة والهدنة في سياقات مختلفة: في الأفقين التاريخي والراهن

يتضح من مجمل التسريبات المتعلقة بالمفاوضات الأخيرة، التي دارت في القاهرة حول التهدئة بين المقاومة في قطاع غزّة وبين الاحتلال، أنها قد خلطت بين عدة مفاهيم طالما تمايزت في الفكر السياسي لحركة حماس، وذلك بالحديث عن هدنة طويلة الأمد، قد تمتد لبضع سنوات، تتخللها محادثات لرفع الحصار عن قطاع غزّة8.

طول الأمد المتفق عليه مسبقًا هو من سمات مفهوم الهدنة لدى حركة حماس، الذي سبق لها وعبّرت عنه في عدد من أدبياتها وتصريحات قياداتها خلال مسيرتها السياسية. إلى جانب ذلك، تطور مفهوم آخر حول رؤية حماس لبرنامج الإجماع الوطني الممكن، في محاولة من الحركة للتعامل مع طروحات بقية الفصائل التي تبنت الحلول المرحلية، وركزت على هدف إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام ١٩٦٧، وهو ما ترجمته الحركة في وثيقتها السياسية الأخيرة، من مرونة تجاه القبول بدولة فلسطينية على حدود عام ١٩٦٧ كهدف للعمل الوطني في هذه المرحلة، دون أن تستعد لتسوية نهائية للصراع على هذا الأساس.

في المقابل، مارست حماس بالفعل، وغيرها من فصائل المقاومة، مفهوم التهدئة عدة مرات، كما حصل عام 2002 خلال انتفاضة الأقصى، وعام 2005 ضمن تفاهمات وطنية أوسع، وعقب المواجهات المسلحة التي شهدها قطاع غزّة منذ عام 2006 فصاعدًا، التي كان آخرها تفاهمات وقف إطلاق النار بعد عدوان عام 2014،9 وذلك لأن مفهوم التهدئة لا يكاد يتجاوز القصد منه وقف إطلاق النار غير المحدد بإطار زمني مسبق، أو المحدد بإطار زمني محدود، وإن كانت قد ترافقه مباحثات حول بعض الملفات دون أن يكون الاتفاق عليها شرطًا لإتمام التهدئة، وهو ما يمكن فهمه كأداة للمقاومة في ضبط وتيرة التصعيد وزمنه في الاشتباك العسكري بما يلائم ظروفها.

لكن مباحثات التهدئة الأخيرة تأتي في سياق مختلف تمامًا، فهي من جهة تتعلق بقطاع غزّة وحده، ومن جهة أخرى تأتي في ظل حصار خانق متفاقم، وانقسام داخلي يتعمق منذ فرض قيادة السلطة الفلسطينية إجراءات عقابية متصاعدة على قطاع غزّة،10 واستمرار مسيرات العودة، وتجدد الاشتباكات المسلحة بين المقاومة في غزّة وبين الاحتلال من فترة لأخرى، الأمر الذي يُبقي التوتر في درجات عليا، وذلك في ظلّ سيولة إقليمية ودولية، وحديث مستمر عن خطة أمريكية للقضية الفلسطينية.

هذا كلّه دفع بمقترحات إقليمية ودولية من أجل تسوية خاصّة بقطاع غزّة، منها المقترحات المصرية، وخطة نيكولاي ملادينوف، المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وما قيل عن مبادرة قطرية،11 نفتها قطر لاحقًا.12 حاولت هذه المقترحات الدمج ما بين التهدئة التي تعني وقف إطلاق النار، والهدنة التي تعني، في هذا السياق الخاص، الاتفاق على إطار زمني محدد تُنجز فيه ملفات كبرى، كرفع الحصار، أو تخفيفه، وتأهيل البنية التحتية في القطاع، وما سوى ذلك مما قيل عن مسارات خاصّة لربط قطاع غزّة بالعالم الخارجي.

المصالحة في المقدمات والمجريات

لا يمكن فصل المجريات الراهنة عن الانفتاح المصري التدريجي على حركة حماس منذ مطلع عام 2017، والذي كان من أبرز ملامحه استقبال القاهرة في تموز/ يوليو من ذلك العام، وفدًا برئاسة يحيى السنوار، قائد حماس في غزة، ثم استقبالها وفدًا في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه برئاسة إسماعيل هنية، رئيس الحركة.13 ثم رعاية القاهرة بعد ذلك توقيع اتفاقية مصالحة بين حركتي حماس وفتح في تشرين أول/ أكتوبر من العام نفسه.14 وقد ظلّت هذه الاتفاقية تراوح مكانها إلى أن عادت العلاقة بين حركة حماس والسلطة إلى التأزم من جديد، بعد التفجير الذي استهدف موكب رئيس الوزراء رامي الحمد الله في قطاع غزّة في آذار/ مارس 2018.

وإذا كان ثمّة أهداف خاصة بالقاهرة تتعلق بالأوضاع الأمنية في سيناء دفعتها للانفتاح على حركة حماس، كما ذهب كثير من المراقبين في حينه، فإنّ استمرار الاتصالات واللقاءات التي تكثفت في الآونة الأخيرة؛ بحثًا عن هدنة أو تهدئة طويلة قد تتجاوز السلطة الفلسطينية في حال العجز عن إنجاز المصالحة، فإنّ ذلك يُرجّح أن هذه الجهود تأتي ضمن دوافع أكبر من أهداف القاهرة، ولا سيما مع ما بدا من دعم أمريكي لجهود التهدئة، مصحوب بنقد لمواقف السلطة الفلسطينية “المعطِّلة”، وتهديدات بملء الفراغ من قوى أخرى إن ظلّت السلطة على مواقفها تلك15.

بالنسبة لحركة حماس، ومع تردّي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع بفعل الحصار الخانق والمتصاعد، فإنّها انتهجت سياسة مركّبة، استجابت فيها لوساطة المصالحة التي رعتها القاهرة، ثم لمفاوضات التهدئة التي رعتها القاهرة أيضا. وحاولت حماس تعزيز موقفها من خلال التصدي لاعتداءات الاحتلال ضمن موقف وطني جامع، عبّرت عنه الغرفة المشتركة للأجنحة المسلحة، وكذلك من خلال تطوير فعاليات مسيرات العودة، ومحاولة توفير الحدّ الأعلى الممكن من التوافق الفصائلي حول التهدئة، وذلك بإشراك الفصائل الفلسطينية كافة في مفاوضاتها.16

المسار: الدوافع والمآلات

سبقت الإشارة إلى دوافع حركة حماس من الاستجابة لمفاوضات التهدئة التي دعت إليها القاهرة، وهي دوافع تقوم على مرتكزين اثنين: التخفيف من حدّة الحصار على القطاع، والحفاظ على مكتسبات الحركة بما في ذلك سلاح المقاومة، مع تفضيل حماس أن يكون ذلك بالاستناد إلى مصالحة وطنية مع حركة فتح. بيد أن تعثر المصالحة، والتراجع المستمر في العلاقات الوطنية الداخلية، يدفع الحركة للتعاطي الإيجابي مع مقترحات التهدئة، حتى وإن لم تستند إلى المصالحة.

أما موقف حركة فتح، التي طالما رفضت أي حلول خاصّة بقطاع غزّة، واتهمت حركة حماس بالسعي لفصل القطاع عمّا تراه هي “المشروع الوطني”،17 فإنها تتبنى موقفًا يشترط إنجاز المصالحة، كمقدمة ضرورية لأيّ حلّ يتعلق بقطاع غزّة، حتى يستند ذلك الحلّ إلى إجماع وطني في إطار السلطة الفلسطينية، كما تقول.18 إلا أن العودة للمصالحة لم يتكلّل بالنجاح، ففي حين وافقت حماس على الورقة المصرية المقدّمة بهذا الخصوص، فقد وضعت فتح شروطها وملاحظاتها على تلك الورقة،19 وهو ما عدّته حماس إفشالًا للمصالحة، وبالتالي إفشالًا لجهود رفع الحصار عن قطاع غزّة،20 وهذا يعني أن دوافع حركة فتح يكمن فيها خصومتها مع حركة حماس.

أما الجبهة الشعبية، ومع الأخذ بعين الاعتبار حالة التجافي ما بين حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، لا سيما بعد عقد المجلسين الوطني والمركزي مؤخرًا،21 فقد قدّمت تعبيرات رافضة للتهدئة، بالرغم من مشاركتها في مفاوضاتها22.

وأبدت حركة الجهاد الإسلامي تحفظاتٍ على مقترح الهدنة طويلة الأمد؛ لأنّ للهدنة اشتراطات لا تتوفر في هذا المقترح، أي أن ثمن الهدنة قد يكون ثمنًا سياسيًّا، وأكبر من توفير الاحتياجات الإنسانية،23 وهو ما يعني أن الحركة توافق على تهدئة مقابل تهدئة، أي غير مسقوفة بسقف زمني مسبق، أو بسقف محدود لا يتعدى السنة، وهو الموقف الذي تتبناه الفصائل الفلسطينية عمومًا24.

لا يقتصر مسار هذه المسألة على المواقف الفلسطينية، وإنما يتعلق أيضا بشكل جوهري بالأطراف الفاعلة الكبرى، أي “إسرائيل”، والولايات المتحدة، ومصر. وبالرغم من المواقف الأميركية التي بدت داعمة لجهود التهدئة،25 إلا أنّ الموقف الإسرائيلي كان مترددًا ومتحفظًا. فبعد سلسلة اجتماعات عقدها المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر “الكابينيت”، خرج المجلس بنتيجة مفادها أن المتاح الوحيد مع حماس هو الهدوء مقابل تحسين الأوضاع الإنسانية، وأنه لا يمكن إبرام اتفاق أكبر مع حماس دون نزع سلاحها، والكشف عن مصير الجنود الإسرائيليين المحتجزين لديها. وهذه المواقف هي، بالدرجة الأولى، مواقف نتنياهو رئيس الحكومة، وليبرمان وزير الحرب26.

من غير المستبعد أن يكون الموقف الأمريكي الداعم لمفاوضات التهدئة، جزءًا من رؤيته لإنفاذ ما يُسمى “صفقة القرن”، إلا أن عدم إنجاز هذه التهدئة بأي من الصيغ المقترحة في سياق مفاوضات القاهرة، يعني أن هذه الرؤية، لا سيما فيما يتعلق بقطاع غزّة، غير ناضجة بعد، وأنها مرهونة للمواقف الإسرائيلية الداخلية. فإذا كانت “إسرائيل” بحاجة لتهدئة في قطاع غزّة لاعتبارات داخلية، يتعلق بعضها بمستوطني “غلاف غزّة”، واعتبارات إقليمية كالتوتر القائم باستمرار في سوريا، فإنّها ترى أن هذه التهدئة حاصلة بالفعل دون دفع أثمان كبرى لحماس. يضاف إلى ذلك اعتبارات أخرى، كالمزايدات الداخلية التي تسهم في رسم السياسات الإسرائيلية، ومطالبة “إسرائيل” بضم مسألة جنودها الأسرى لدى حماس إلى المفاوضات، وهو ما ترفضه حماس، وقدرة السلطة الفلسطينية على توظيف دورها الأمني لتعزيز موقفها إزاء هذه النقاشات، الأمر الذي يكسبها أطرافًا في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية إلى جانبها 27.

يتصل الموقف المصري بالرؤية الأمريكية، وهو في هذه الحالة ليس دورًا وظيفيًّا صرفًا، وإنما تسعى مصر لتعزيز مكانتها الإقليمية بتكريس حضورها في هذا الملف، طالما أن هناك توجهًا دوليًّا للبحث عن حلّ بخصوص قطاع غزّة. وهنا لا يمكن الجزم بحقيقة الموقف المصري، الذي طالما رأى في حركة حماس خصمًا له، وفي سيطرتها على قطاع غزة تهديدًا محتملًا للأمن القومي المصري. فبهذا الاتجاه، يمكن فهم ربط التهدئة بالمصالحة، وعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، فلا يمكن إغفال أن السلطة الفلسطينية، ومهما بلغت خلافاتها مع الحكومة المصرية، تظلّ تمثل النظام الرسمي العربي في المشهد الفلسطيني، ولا أحد في النظامين الإقليمي والدولي، يرغب في حلّ مشاكل حماس على حساب السلطة الفلسطينية.

إجمالًا يمكن القول إن مصر تسعى للعب دور حقيقي في تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني الجديد، بما

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات