السبت 27/أبريل/2024

قانون القومية الإسرائيلي ودسترة الاستعمار الصهيوني

نمر سلطاني

تحليل «قانون الأساس: القومية» الإسرائيلي يتطلب الذهاب إلى أبعد من مجرد تقصي تاريخ كتابة النص وتحولاته في الكنيست. لابد من النظر إلى عوامل أكثر عمقاً وجذرية وتجاوز النقد الحقوقي الذي يقتصر على ظاهر القانون دون تحليل سياقه.

فقانون القومية هو نتاج صيرورتين رئيسيتين مترابطتين. الأولى إسرائيلية داخلية، تمثلت بصعود نتنياهو وليبرمان إلى الحكم في منتصف التسعينيات. والثانية عالمية تتمثل بتضعضع النظام العالمي السياسي والاقتصادي الذي تمّ وضع أسسه بعد الحرب العالمية، ويتمثل ذلك في صعود ترمب في أمريكا، واليمين الشعبوي في أوروبا إلى الحكم، وكذلك في التصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي. مع ملاحظة أن صعود ترمب هو أيضاً صراع على مكانة الولايات المتحدة وسعي إلى تغيير بنية النظام الإمبريالي. هاتان الصيرورتان مترابطتان وتتلاقيان بحيث يمكن اعتبار نتنياهو «نبيّ» هذه المرحلة الذي سبق ترمب بعشرين عاماً.

صعود اليمين النيوليبرالي
ما تميزت به الثمانينيات والتسعينيات خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي هو انتصار اقتصاد السوق والدساتير الليبرالية المبنية على الحقوق الفردية وحق الملكية. وعبّرت عن ذلك عملية تشريع ودسترة في العديد من الدول بما في ذلك “إسرائيل”. وتماشى مع ذلك حكم الخبراء في الاقتصاد والسياسة والأمن والقضاء الذين أفرغوا الديمقراطية بما هي حكم الأكثرية من أي مضمون، لأن الأمور المهمة في سياسات الدولة واقتصادها أصبحت خارج متناول إمكانية الشعب لتغييرها.

لكن إعلان انتصار مرحلة هو أيضاً إيذان ببداية نهايتها. كان على المنطق النيوليبرالي أن يقود إلى نهايته المنطقية وهي القضاء على دولة الرفاه الاجتماعي. نتنياهو، مثله مثل ترمب والخطاب السائد في البريكست، هو رد فعل على حكم الخبراء هذا وتهميش الناس وازدراء الديمقراطية. إذ أنّ نتنياهو وليبرمان هاجما في التسعينيات النخب الليبرالية في الصحافة والشرطة والقضاء. لم ينجح نتنياهو بمحاولته الأولى، وكان حكمه قصيراً في التسعينيات، وذلك لأن المجتمع الإسرائيلي لم يكن قد نضج بما فيه الكفاية لتبني الأجندة النيوليبرالية من ناحية، والشعبوية اليمينية من ناحية أخرى. لكن عودة نتنياهو إلى الحكم وثباته فيه في العقد الأخير يعني نجاح مشروعه بالتغلغل في كل مؤسسات الدولة والسيطرة عليها، بما في ذلك تعيين مستوطنين كقضاة في المحكمة العليا. 

نجاح نتنياهو مرتبط بخلق القواعد الاجتماعية اللازمة لدعم المشروع انتخابياً. السياسات النيوليبرلية تستدعي الشعبوية اليمينية ذلك أن النيوليبرالية تعني تفكيك المجتمع من كافة أشكال التضامن الجماعي وإعلاء شأن الفرد بدلاً من الجماعة وجعل كل شيء بضاعة للبيع في السوق (بما في ذلك الهجوم على النقابات العمالية، وخصخصة التعليم والصحة وحتى السجون والمطارات). نتاج هذا النظام هو إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء وفك روابط المجتمع بما يجعل الفرد مشغولا بصراع البقاء متحولاً إلى مستهلك في ثقافة استهلاكية تُعلي شأن الماديات.

في المقابل، يقوم الخطاب الشعبوي اليميني (بما في ذلك الشوفيني العسكري والقومجي الذكوري) بسدّ الفراغ الذي يتركه تدمير المجتمع. إذ أنه يعطي للناس قصة تفسر حياتهم، وعنوانا لغضبهم، وتبريرا لسوء معيشتهم. وكثيرا ما يتجلى ذلك بمهاجمة النخب والمهاجرين والأقليات والأعداء من الداخل والخارج، الحقيقيين أو المختلقين. هذا الخطاب ضروري انتخابياً للوصول إلى الحكم، كما تجلى ذلك في نجاح ترامب وبريكست بعد استغلال خيبة أمل الطبقات المسحوقة من النخب الحاكمة. وينتشر هذا الخطاب بسهولة لأن النظام النيوليبرالي يعني أيضاً تأثيراً غير مسبوق للمال في السياسة كما هو الحال مع ترمب وكذلك دعم شيلدون اليسون لنتنياهو (خاصة انتشار صحيفة «يسرائيل هيوم» المجانية). وصعود ترامب إلى الحكم يعني توفير دعم غير مشروط لسياسات اليمين الإسرائيلي دون حاجة لدفع ثمن مهما كان بسيطاً كما كان الحال مع الإدارات الأمريكية السابقة.

سنّ قانون القومية هو تعبير عن مشروع اكتمل ونضج. من ناحية، السياسات الاقتصادية والاجتماعية خلقت القواعد الانتخابية اللازمة لنجاح المشروع، والديناميكيات الداخلية المتعلقة بالتنافس الحزبي تسرّع الاندحار إلى اليمين (ظهور بينيت وأمثاله)، وكل ذلك في ظروف القضاء على المؤسسات والنخب التي كان من الممكن أن تكبح جماح هذا المشروع. من ناحية أخرى، التغييرات العالمية مواتية ل”إسرائيل” اليمينية الشوفينية. مشروع نتنياهو وليبرمان النيوليبرالي نجح لأن المشروع ذاته نجح في أمريكا إبّان حكم أوباما، أي قبل مجيء ترمب. 

يهودية وديمقراطية؟
لفهم القانون الإسرائيلي الأخير في هذا السياق يجب التمييز بين النقاش الداخلي الإسرائيلي وبين رؤية عربية وفلسطينية. الوعي الصهيوني المهيمن يعبر عن التناقض الداخلي على أنه تناقض بين العامل الديمقراطي والعامل اليهودي، ولذا يبدو القانون انتصاراً لليهودية على الديمقراطية. ولكن هذا تعبير عن التناقض في الواقع في الوعي الصهيوني فحسب، وبالتالي هو ليس ضرورياً التناقض الأساسي أو الحقيقي. ذلك أن حدود الوعي المهيمن ناتجة عن تمثيل الواقع عبر خطاب أيديولوجي. وهذا الخطاب يقوم بإخفاء بعض العوامل ويشوه الواقع ليستطيع الناس التعايش مع واقعهم. التناقض بين اليهودية والديمقراطية هو تناقض إسرائيلي داخلي بين المتدينين والعلمانيين وبين الحقوقيين والشعبويين وبين اليسار واليمين إلخ. لكن العامل الأساسي الذي يخفيه هذا الخطاب، هو عدم شرعية الدولة لكونها مشروعا استعمارياً إحلالياً. التناقض هو ليس بين طابع الدولة الديمقرطي وجوهرها اليهودي، كما يحاجج الوعي الصهيوني، ذلك أن الديمقراطيات الليبرالية قد تكون دولاً استعمارية أيضاً. لا يوجد تناقض ضروري بين المشروع الاستعماري والديمقراطية كنظام حكم. لو كان التناقض كما يدّعون لكان الحل هو مجرد تطبيق أفضل للقيم التي تعلنها الدولة. مشكلة الناقدين الليبراليين الصهاينة مع القانون هي أنه يصعّب عليهم تبرير وجودهم، لأن الفجوة التي يعتاشون منها تمّ إغلاقها عندما تبنّى الدستور قيماً معارضة لهم.

لذا الحل ليس بالعودة إلى الفجوة السابقة للقانون، لأن ما سبقه كان أيضاً ظالماً، لأن القانون يعبّر عن صيرورة سياسية تاريخية ولا بد لها أن تأخذ مداها. التناقض هو في المشروع الاستعماري نفسه. الوصول إلى «توازن» مقبول بين اليهودية والديمقراطية ليس حلا لسببين. أولا، لأن الموقف الذي يمثله الليبراليون الصهاينة خسر تمثيله السياسي لأنه خسر قواعده الاجتماعية بسبب السياسات النيوليبرالية. ثانياً، العودة إلى التوازن يعني البقاء في الإطار الاستعماري بدلاً من تجاوزه. 

المشروع الاستعماري متناقض، لأن عليه أن يبرر نفسه ويعيد إنتاج نفسه عن طريق نفي الآخر الأصلاني وأحقيته بالوجود كجماعة سياسية ذات كيان سياسي. وهذا ضروري حتى لو كانت الدولة ديمقراطية. التناقض هو في الديمقراطية ما دامت استعمارية، وفي اليهودية ما دامت استعمارية. الجمع بين عاملين استعماريين محصلته استعمارية. والإبقاء على عامل استعماري واحد محصلته أيضاً استعمارية. 

دسترة الاستعمار
يمثل نتنياهو النهاية الطبيعية للتناقض الكامن في الفكر الليبرالي الصهيوني. هذا القانون هو عودة المقموع داخلياً إلى ظاهر الوعي الإسرائيلي. وهو يعكس تصالح الصهيونية مع جذورها التي طالما حاولت إنكارها. لذا لا يجب أن يقتصر نقد القانون فلسطينياً على المطالبة بالانتصار للقيم الديمقراطية ضد اليهودية في تعريف وهوية ودستور الدولة. المشكلة هي ليست فقط انعدام الديمقراطية والتمييز وإنما رفض الوجود السياسي للفلسطينيين وإنكار علاقتهم السياسية بأرضهم.
يتجلى هذا العامل الاستعماري بوضوح في «القانون الأساسي» الذي يرفع إلى مستوى الوعي الدستوري التطابق بين الممارسة والفكر. 

في عام 2011 تمّ سن قانون لجان القبول الذي يسمح عملياً بقيام بلدات يهودية صافية. وقامت المحكمة عام 2014 بإعطاء صبغة دستورية لهذا القانون. ذلك أن الدستور يشمل تفسيرات المحكمة له وليس فقط النصوص البرلمانية. في قانون القومية يتم استبدال الحديث عن «الفئات غير الملائمة اجتماعياً» التي استعملها قانون لجان القبول عام 2011 بالحديث المباشر بلا مواربة عن تشجيع الاستيطان اليهودي. في حينه رفضت جمعيات حقوقية إسرائيلية قانون لجان القبول لأنه يميّز ضد المهمشين اجتماعياً، كأنه لا فرق بين التمييز ضد الفلسطيني وضد المعاقين أو المختلفين جنسياً. الآن اتضح أن النخب السياسية الإسرائيلية تتباهى بالاستعمار وبالفصل العنصري. كون القانون دستوريا يعني أن هذه النخب تريد رفع الإجماع الصهيوني الحالي إلى ما فوق السياسة. إذ أن المفهوم المتعارف عليه للدستور هو كونه عبارة عن مبادئ وقواعد تعلو السياسة وتتجنب التقلبات الانتخابية، وتقيّد أيدي السلطتين التنفيذية والتشريعية. إذا، بعد قرابة عقد من وصوله إلى الحكم في 2009 نجح نتنياهو وحلفاؤه في إرساء مبادئ الحكم كما يرونها بعد أن غيّروا مؤسسات الحكم. تغيير المؤسسات يستدعي تغيير المبادئ والقيم والإجماع التي بنيت عليها لكي تتلاءم مع ممارساتها الأخيرة. لذا، يشكل هذا القانون صكّ الاعتراف الإيديولوجي بنهج نتنياهو منذ 1996. 

المصدر: صحيفة القدس العربي اللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات