السبت 27/أبريل/2024

قانون تمزيق إسرائيل

عبد الحليم قنديل

كأنهم يريدون حجب نور الشمس بأصابعهم الملطخة بالدم، هكذا بدا نواب الكنيست الإسرائيلي، وهم يقرون ما يسمى «قانون الأساس» أو «قانون القومية» الإسرائيلي، الذي يعطي اليهود كل شيء حصرياً في فلسطين بكاملها، ويحرم الفلسطينيين من أي شيء، حتى من مجرد الاعتراف بوجودهم الفيزيائي كبشر، وقد صدر القانون بأغلبية 62 صوتاً مقابل 55 معترضاً، وانفرد النواب العرب بتصرف موحد ذي مغزى، ومزقوا أوراق القانون على الهواء، ونزلت مزق الأوراق على رأس نتنياهو كأنها طائرات ورقية حارقة.

القانون العنصري الصهيوني بامتياز، الذي يكشف حقيقة كيان الاغتصاب الإسرائيلي كدولة أبارتهايد وفصل وامتهان عنصري بلا شبهة، وبلا رتوش، ولا مساحيق تجميل، ينص كما هو معروف على الحق الحصري لليهود في أرض فلسطين، ويصف ما يسمى بدولة “إسرائيل” بأنها «الوطن القومي» لليهود وحدهم، ويجعل «اللغة العبرية» لغة رسمية وحيدة، ويعطي اليهود وحدهم حق تقرير المصير، وحق القدوم إلى فلسطين، وحق اكتساب المواطنة الكاملة، وحق الاستيطان الذي يلزم به الدولة، وجعل القدس بكاملها عاصمة أبدية موحدة لـ”إسرائيل”، وكأن لا أحد آخر غير اليهود يقيم في دولة الاحتلال، بينما عدد الفلسطينيين يفوق الآن عدد اليهود في فلسطين المحتلة بكاملها، وهم في ازدياد مطرد، يجعلهم في عقود مقبلة أغلبية سكانية ساحقة، وعددهم وراء ما يسمى «الخط الأخضر»، أي في الأراضي المحتلة منذ نكبة 1948، يصل الآن إلى نحو ربع سكان ما تسمى دولة “إسرائيل”، وكل هؤلاء يتنكر القانون المريض لمجرد وجودهم، وكأن واضعي القانون زمرة من العميان المصابين برمد عنصري مزمن، أو كأنهم يعيشون خارج التاريخ وخارج الجغرافيا، ويتصورون أنه بالإمكان إطفاء نور الشمس، وحجب الحقائق التي لا راد لدلالاتها الساطعة.

والمشهد كله ينطوي على عبث لا يخفى، وعلى عجرفة عنصرية جاهلة بما يجري على الأرض، وكأن التاريخ دار دورته الكاملة، فقد كان العرب في وضع الصدمة بما يجري زمن نكبة 1948، واعتصموا وقتها بحبل إنكار الغزو والاغتصاب الذي جرى، وقيام دولة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وكانوا يسمون دولة الاغتصاب بالعصابات الصهيونية المزعومة. كانت النكبة فوق طاقة احتمال العرب نفسياً، وأرادوا وقتها التعويض عن بؤس الواقع بفسحة الخيال، وبعصب العين فلا ترى هول ما وقع، وبعد سبعين سنة على حدث النكبة المزلزل، آن للصهيونية وحركتها، أن تتجرع من الكأس نفسه، وأن يتصور قادتها، أنه بالوسع افتراض ما لم يعد ممكناً، وأن فلسطين تحولت إلى دولة يهودية خالصة، بينما الواقع في واد آخر بالجملة، فلم يكن كيان “إسرائيل” في نقطة أبعد عن المعنى اليهودي الخالص، كما هو الآن، فـ”إسرائيل” وجدت ككيان استعماري استيطاني إحلالي، وجعل فلسطين كياناً يهودياً خالصاً، يستلزم جلب المادة البشرية اليهودية من كافة جهات الدنيا، وإحلالهم محل الفلسطينيين كسكان أصليين، والإجلاء الكامل للفلسطينيين عن الأرض، لكي يتحقق زعم الصهيونية الخرافي، بتصوير فلسطين كأرض كانت بلا شعب، يجري منحها لشعب يهودي مفتعل بلا أرض، ويريد استيطان أرضه الموعودة بأساطير التوراة، وقد فعل المشروع الصهيوني كل ما في وسعه، بل كل ما في وسع الغرب الاستعماري المحتضن للصهيونية، وجلب من اليهود ما استطاع، لكن حصيلة المباراة السكانية بدت مفزعة لصانع المشروع الصهيوني، فلم يعد ممكناً جلب يهود جدد بأعداد مؤثرة لاستيطان فلسطين، بينما الفلسطينيون الذين طردوا وشردوا في حروب العدوان، كان بوسعهم، وبوسع صمود من صمد منهم على أرضه، أن يلدوا شعباً فلسطينياً جديداً على أرضه التاريخية المحتلة بكاملها الآن، وأن يغيروا المعادلات السكانية فوق الأرض، وأن يصبحوا في اطراد أغلبية سكانية في وطنهم المقدس، وهو ما يريد اليهود الصهاينة أن يعصبوا أعينهم فلا يرونه، وأن يعوضوا عن بؤس الواقع الإسرائيلي بإطلاق الخيال اليهودي، وأن يصفوا واقعاً بأغلبية فلسطينية متكاثرة بالدولة اليهودية الخالصة، وعلى نحو ما يذهب إليه القانون البائس المسمى بقانون «القومية» الإسرائيلي.

وبعبارات أخرى، فإن القانون الذي صوروه انتصاراً عظيماً ل”إسرائيل”، لا يعدو أن يكون ستاراً للتخفي بإحساس الهزيمة الغريزية عند الصهاينة، بينما يبقى الواقع ناطقاً، ومثيراً لشعور الخيبة العميقة عند قادة الصهاينة المهووسين، الذين يفزعون من طائرات الأطفال الورقية الحارقة المقبلة من غزة، كما يفزعون غريزياً من الحضور الفلسطيني الكثيف المتزايد فوق الأرض، فعدد الفلسطينيين لا يتفوق فقط على عدد اليهود فوق الأرض المقدسة، بل إن عدد الفلسطينيين وحدهم في الدنيا يتفوق الآن على عدد اليهود جميعاً في أربع جهات المعمورة، والأرض تنطق بناسها لا بالحراب، فلم يترك مخطط المشروع الصهيوني شيئاً لم يتذكره ولم يفعله، ولم يترك سلاحاً ولا تكنولوجيا، إلا وسعى إلى حيازتها، وهو الكيان الوحيد الذي يملك ترسانة ذرية متطورة في المنطقة، لكن السلاح وحده لا يخلق حقائق جديدة غير قابلة للمحو، وقد أفرطت “إسرائيل” في استخدام سلاحها، بمعية السلاح الغربي كله، وتمكنت بسلاحها من خلق جيب يهودي صهيوني فوق الأرض الفلسطينية، وطردت من الفلسطينيين ما أمكنها طرده، وفي حملات حرب، بدأت بطرد 800 ألف فلسطيني في نكبة 1948، وصار هؤلاء الآن نحو ستة ملايين في عوالم الشتات واللجوء، لكن تلك لم تكن نهاية القصة، فقد توالد على أرض فلسطين ما يزيد على ستة ملايين آخرين، وهو ما مزق أوراق القاعدة المثلى للاستيطان اليهودي في فلسطين، فلا ينجح أي مشروع استيطاني إحلالي سوى بشرط جوهري، هو إجلاء أو إفناء السكان الأصليين، وعلى نحو ما جرى في الأمريكتين وأستراليا، بينما فشل المشروع الاستيطاني في الجزائر وجنوب إفريقيا لعدم توافر الشرط المذكور، وهو ما يبدو جلياً الآن في حالة فلسطين، فقد استنفد المشروع الاستيطاني الصهيوني كل مخازن اليهود الذين يمكن جلبهم، وكان جلب ما يسمى «اليهود السوفييت» هو نهاية المطاف، وبإضافات محدودة من «فلاشا» إثيوبيا وغيرهم، بينما كتلة اليهود الأساسية المتبقية خارج فلسطين، والممثلة بملايين اليهود في أمريكا بالذات، لا يمكن جلبها إلى فلسطين، وتكتفي بدور الدعم المالي، وتجيير قرارات واشنطن لصالح “إسرائيل”، والمحصلة ظاهرة، وهي أن منابع جلب اليهود المتاحة إلى فلسطين جفت أو كادت، بينما ثبات الفلسطينيين على أرضهم يزداد رسوخاً، وفوارق معدلات الإنجاب لصالحهم باطراد.

وهذا هو جوهر المأزق الوجودي الذي يواجه المشروع الصهيوني الاستيطاني، وما من حل نظرياً له سوى بطرد الفلسطينيين من فلسطين مجدداً، وشن حروب «ترانسفير» جديدة على طريقة ما جرى في نكبة 1948، وقد يرغب بذلك قادة الصهاينة، لكن الفارق بين الرغبة والقدرة هائل، فالشعب الفلسطيني الذي عايش المحنة الفريدة، يبدو الآن شعباً آخر مختلفاً، فليست قوة الفلسطينيين في تكاثر أعدادهم لا غير، بل في نوعية المادة البشرية التي صاروا عليها، وهم أكثر الشعوب العربية تعليماً، وأكثرهم صبراً على المكاره، وقدرة على الثبات والتمسك بالأرض، وأعظمها إبداعاً في أساليب الكفاح المدني والشعبي، وأكثر ما يفزع “إسرائيل” هو بقاء ظل الفلسطيني على أرضه، و«قانون القومية» البائس لن ينفع “إسرائيل” في شيء، فنصوصه العنصرية السافلة ظلت تمارس عملياً لسبعين سنة مضت، والفلسطينيون سيظلون في القدس كما في كل فلسطين، ودم الفلسطينيين يهزم السيف الإسرائيلي في مواجهات يومية كبيرة وصغيرة، وأصوات الفلسطينيين تنطق بالعربية، رغم فرض «العبرية» لغة رسمية وحيدة، وقوة “إسرائيل” الفائقة في السلاح والتكنولوجيا لن تنفعها إلى النهاية، فلم تنتصر “إسرائيل” في حرب واحدة بعد حرب 1967، كانت تلك آخر انتصارات كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ثم حلت عليه من بعدها لعنة العجز عن النصر، ليس لأن الوضع العربي صار أفضل، بل العكس هو الصحيح تماماً منذ نهاية حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وانسحاب الأنظمة من خطوط المواجهة ضد “إسرائيل”، ثم خيانة الأنظمة لأبجديات الحق الفلسطيني، وتحالفها الضمني، فالظاهر مع الكيان الإسرائيلي، وكل ذلك قد يغري بتقبل فكرة يروج لها كثيراً، هي أن بؤس الوضع العربي يؤدي بالضرورة لعصر ازدهار غير مسبوق ل”إسرائيل”، وهو ما تثبت الحقائق الصلبة عكسه بالضبط، فقد أصبحت “إسرائيل”، سواء بسواء مع الأنظمة العربية في خانة البؤس التاريخي، وانظر إلى ما تخافه “إسرائيل” الآن، وهو نفسه ما تخافه الأنظمة العربية الحليفة عمليا ل”إسرائيل”، فأكثر ما تخشاه إسرائيل هو المقاومة الشعبية من نوع مختلف، التي بدأت مع سيرة «حزب الله»، ثم انتقلت إلى الداخل الفلسطيني، وبإبداع جديد، يضيف المقاومة الشعبية السلمية إلى أختها المسلحة، وهذا هو قانون الشعب الفلسطيني الجديد، الذي يمزق أوراق قوانين “إسرائيل”، ويمزق استيطانها المرتعب من وجوه الفلسطينيين.

المصدر: صحيفة القدس العربي اللندنية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات