عاجل

الجمعة 03/مايو/2024

مكانة حماس الإقليمية.. الواقع والممكنات

ساري عرابي

تستمدّ حماس مكانتها الإقليمية من جملة من العوامل، في صدارتها أهمية القضية الفلسطينية للإقليم وللعالم، وبالرغم مما يبدو من تراجع راهن لأولوية القضية الفلسطينية يفرضه الآني اللحوح في غير مكان في الإقليم وفي العالم، إلا أن الحقيقة كامنة في مكان آخر، فالفوضى الدولية، وتراجع القدرة الأمريكية على الهيمنة والسيطرة، وانفتاح الممكنات أمام القوى الإقليمية لملء الفراغ؛ يعزّز من مكانة الموضوع الفلسطيني، وإن كان في بعض الأحيان من اتجاهات معاكسة لحق الفلسطينيين ومصلحتهم، ولكنها لا تنفي أصل أهمية الموضوع نفسه.

(1)
يمنح التحليل السياسي العربي السائد الريادة الإقليمية لثلاث قوى، هي “إسرائيل” وإيران وتركيا، والريادة الإقليمية تضمر تنافسًا يروم بالضرورة إضعاف القوى الأخرى، وذلك بصرف النظر عن موقع العداء الأصلي في مثل هذا التنافس إن كان متحققًا أم لا، ولكن التدافع الذي يفرضه التنافس، يحافظ على قيمة الموضوع الفلسطيني، وإن في بعض جوانبه من زاوية معاكسة.

فيما يتعلق بـ”إسرائيل” فالشروط الموضوعية لوجودها تقتضي ضمان تفوقها وضعف المنطقة كلها، وبالضرورة ضعف العرب، وأي قوة أخرى إسلامية، ومنع صعود أي قوة إقليمية منافسة، وفيما يتعلق بإيران فطموحها الإقليمي جارف وقد صارت على حدود فلسطين، ما من شأنه أن يعظّم من إمكانات اصطدامها مباشرة أو عبر القوى الأخرى الموالية لها بـ “إسرائيل” في حرب لم تعد مستبعدة، وهذه الأخيرة تجري اليوم أكبر مناوراتها العسكرية استعدادًا لحرب مع حزب الله.

 وأما تركيا فقد باتت تدرك أن مكانتها الإقليمية -المستندة إلى قواها الذاتية والمستقلّة- وحدها الضامنة لمصالحها واستقرارها، وهي اليوم تجد نفسها أكثر من أي وقت مضى عارية من حلفاء يُعتمد عليهم إقليميًّا ودوليًّا، بل إن حلفاءها الغربيين الذين خدمتهم عقودًا طويلة لا يخفون نواياهم، بل أفعالهم، لإضعافها وإبقائها دولة وظيفية مرهونة لهم.

يتصاعد الصراع الإقليمي ويتعقّد، وبالرغم مما بين إيران وتركيا من تنافس إقليمي، وخلاف عميق بخصوص الموضوع السوري، فإن الدولتين لم تجدا بدًّا من التفاهم حول جملة من التحديات الإقليمية، لاسيما وأن إيران تدرك أن القوى الإقليمية الساعية لتقويض حكم العدالة والتنمية التركي لا تكنّ ودًّا لها، بل تتخذ موقفًا عدائيًّا أصيلاً تجاهها، وقد أخذ التفاهم بين الدولتين يتضح أكثر فأكثر مع لقاء رئيسي الأركان الإيراني والتركي في تركيا أخيرًا، دون أن تكتسي علاقة الدولتين بعد بالثقة المتبادلة الكافية.

تلعب “إسرائيل” في هذا السياق السائل والمتحرك لعبة مزدوجة؛ فهي من جهة تسعى لضمان تفوّقها على المجال العربي، ومن جهة أخرى تسعى لدمج نفسها داخل محور إقليمي يستهدف أساسًا تعزيز سيادتها الإقليمية وتطبيع وجودها في المنطقة، مستغلة حالة الضعف والاهتراء التي تعانيها بعض الدول العربية، ونافذة من خلال مخاوف تلك الدول تجاه إيران، وجهودها -أي تلك الدول- لاجتثاث الإسلاميين وتقويض الأدوار التركية والإيرانية في المنطقة.

(2)
بالعودة إلى حماس، فإن الحركة ليست في أحسن أوضاعها، وقد تراجعت مكانتها الإقليمية فعلاً، بعدما انحصرت فاعليتها -نتيجة جملة من العوامل الداخلية والموضوعية- داخل قطاع غزّة، في صورة مركّبة من المقاومة، رافعة حماس الأساسية، ومن الحكم الذي وإن أضاف للحركة في بعض من الأوقات وعزّز من مكانتها، فإنّه مع اختلال تحالفاتها الإقليمية، وسيولة المنطقة وافتقارها لليقين الإستراتيجي، والحصار المطبق على حماس، واضطرارها إلى الداعمين؛ قد جعلها في واحد من أسوأ الأوضاع التي مرّت بها في تاريخها.

بيد أن أزمات الحركة المستحكمة لم تفقدها ثقلها، فهي لم تزل تحظى بشعبية كبيرة في الضفة الغربية بالرغم من افتقارها للفاعلية التنظيمية هناك وعدم قدرتها على استيعاب الهجمة المزدوجة التي تتعرض لها منذ سنوات، وهي في غزة تملك تنظيمًا كبيرًا وتمسك بالجغرافيا بالرغم مما يقع عليها من نتائج الحصار أو من سياساتها الحكومية والإدارية التي لا تلقى في كثير من الأحيان الرضى الشعبي اللازم لإسناد حركة تقود شعبًا محاصرًا، وبالنظر إلى حجم الحركة ودورها الفلسطيني ومسلكها المقاوم، فإنه لا بدّ وأن يظلّ لها قدر من الحضور الإقليمي.

مع استمرار السيولة الإقليمية بالغموض الإستراتيجي المخيم على كل شيء وبما لا يتيح مجالاً لتوقع وقت قريب للنهايات، ومع احتمال انفتاح مواجهة ما في الإقليم أو في العالم أو على حدود فلسطين أو مع حماس نفسها في غزة، فإن حماس ملزمة بألا تفاجئها المواجهة، وبأن تكون مستعدة لها، وهي أيضًا ملزمة بألا تكون خارج الحسابات الإقليمية، وهذا كلّه بدوره يلزمها باجتراح وظيفة إقليمية، تستند إلى تحالفات إقليمية تكون أقرب إلى فلسطين، وتلعب على تناقضات التدافع الإقليمي بين قواه وتكتلاته في المنطقة.

لا تعني الوظيفة الإقليمية هنا الانخراط في محور مشتبك بالصراع الإقليمي الجاري، وإنما تعني الإيجابية في التجسير والتشبيك بين القوى المتضررة من السيادة الإقليمية الإسرائيلية، ومن أي محور إقليمي عربي تندمج فيه “إسرائيل”، دون أن تتبنى خطابًا معاديًا لأي من الأطراف الإقليمية، سوى “إسرائيل” بطبيعة الحال، بمعنى أنه ينبغي أن تكون مهمة التجسير إسناد حماس في الظرف الجاري، وتقريب التفاهمات أو التحالفات المناوئة أو المتوجسة من السيادة الإسرائيلية؛ تقريبها أكثر من فلسطين، وفي السياق يُعاد تقديم القضية الفلسطينية أولوية تنكشف فيها خطورة العامل الإسرائيلي على المنطقة كلها.

هذه المهمة ليست سهلة، وتعترضها عقبات كبيرة بعضها ذاتي متعلق بحماس، وبعض آخر موضوعي متعلق بالجاري الإقليمي وتشابكاته، بيد أن النظر من مكان مرتفع ضروري، ولا يقل ضرورة عن الانغماس في اليومي والجاري.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات