الثلاثاء 21/مايو/2024

عن المسّ بكتائب القسام

"ساري عرابي/ خاص لـ""المركز"""

في اليوم التالي لبيان القيادة العامة لقوات العاصفة الذي أعلن عن تنفيذ عمليات مسلحة داخل الأرض المحتلة في يومي 31/12/1964 و1/1/1965؛ أصدر مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بيانًا ينفي فيه علاقة المنظمة ببيان قوات العاصفة، ويؤكد في الوقت نفسه أن “أي عمل عسكري فلسطيني ضد إسرائيل هو من صلاحيات واختصاص جيش التحرير الفلسطيني الذي يتولى وحده مسؤولية التعبئة العسكرية لأبناء الشعب الفلسطيني من أجل تحرير الأرض المحتلة”.. هكذا بالضبط قال بيان المنظمة في 2/1/1965.

بصرف النظر عن دقة مضمون بيان العاصفة، فإن هذا البيان كان قد أسس فعلاً لزمن الثورة الفلسطينية المعاصرة، والتي أعادت إنتاج نفسها من بعد هزيمة النظام العربي في حرب حزيران 1967، ولكن المقاومة بدت حينها وكأنها قد دخلت في صراع مع المنظومة الإقليمية العربية في حين يفترض أن صراعها حصرًا مع العدو الصهيوني، وقد كانت منظمة التحرير جزءًا من هذه المنظومة التي نطق بلسانها بيان المنظمة، كما عبّر عن هواجس التمثيل والقيادة التي هبّت عليها ريح التهديد والمنافسة.

المفارقة؛ أن ما عانته فتح في بداية انطلاقتها مع الحالتين الفلسطينية والعربية، تعانيه حماس اليوم مع فتح وحتى اللحظة، وتندرج هذه المعاناة في قلب التعقيد الإقليمي، ولاسيما منذ قيام السلطة الفلسطينية وتحول فتح إلى حزب سلطة بعدما كانت واحدة من عدة فصائل تقود الكفاح المسلح، كما تندرج هذه المعاناة في قلب الصراع على التمثيل والقيادة والذي سبق تأسيس حماس، وتصاعد من بعد تأسيسها، ولكنه تجاوز حدّه الفلسطيني، ليرتبط بذلك التعقيد الإقليمي والدولي من بعد قيام السلطة.

بل إن حركة القوميين العرب -والتي انبثقت عنها بعض أهم قوى اليسار الفلسطيني من فصائل الثورة الفلسطينية المعاصرة- كانت قد حملت على فتح بعد بيانها الأول هذا، منطلقة من رؤية مفادها أن الناصرية هي الحركة التاريخية في المنطقة، والتي يتوجب على الجميع العمل تحت مظلتها، وعلى أساس أن فلسطين لا تصلح جغرافيًّا للعمل الفدائي، وأن المثال الجزائري يستحيل استنساخه فلسطينيًّا، وأن الجيوش العربية وحدها التي سوف تتولى مهمة تحرير فلسطين.

جدلية المقاومة الفلسطينية والمحيط العربي معروفة تاريخيًّا، ولم تكن صراعات الفلسطينيين الداخلية منفصلة عن تلك الجدلية، وإن كان لهذه الصراعات حيثياتها الخاصة أيضًا، من التبعيات إلى الإيديولوجيات إلى صراعات التمثيل والقيادة إلى صراعات الموقف من المقاومة نفسها، صلاحية أو في تكتيكاتها وإستراتيجياتها، وبعبارة أخرى كان هناك خلاف دائم حول المقاومة، فإن لم يكن عليها، فعلى ما يتصل بها من التوقيت والظرف السياسي والأدوات وما شابه.

المفارقة؛ أن ما عانته فتح في بداية انطلاقتها مع الحالتين الفلسطينية والعربية، تعانيه حماس اليوم مع فتح وحتى اللحظة، وتندرج هذه المعاناة في قلب التعقيد الإقليمي، ولاسيما منذ قيام السلطة الفلسطينية وتحول فتح إلى حزب سلطة بعدما كانت واحدة من عدة فصائل تقود الكفاح المسلح، كما تندرج هذه المعاناة في قلب الصراع على التمثيل والقيادة والذي سبق تأسيس حماس، وتصاعد من بعد تأسيسها، ولكنه تجاوز حدّه الفلسطيني، ليرتبط بذلك التعقيد الإقليمي والدولي من بعد قيام السلطة.

لم يكن ثمة خلاف على كتائب القسام في بدايتها، وحظيت كوادرها الأولى بإعجاب فلسطيني جارف، بما في ذلك قادة العمليات التفجيرية، والذي كان يحيى عياش أشهرهم، حتى إنه يمكن القول إن هذا الرجل لم يكن يومًا محل خلاف فلسطيني، بالرغم من أن هذا النمط من العمليات صار محل خلاف من بعد قيام السلطة الفلسطينية، وقبل استشهاد عياش.

حينما قامت السلطة، ودخلت غزة وأريحا، وحتى قبل دخولها بقية ما عرف بالمناطق (أ) في الضفة الغربية، صارت كتائب القسام، كما هو حال حركتها الأم حماس، هدفًا للسلطة الوليدة، التي أخذت في الدفاع عن مشروعها وكيانها الذي رأى في العمليات التفجيرية تهديدًا جديًّا له، ولأن فتح التي طالما استحوذ عليها هوس التمثيل والقيادة، قد رأت في حماس ومنذ وقت مبكر جدًّا منافسًا خطرًا.

فتح هذه صارت أخيرًا نظامًا رسميًّا عربيًّا، كحال تلك الأنظمة التي عانت منها فتح على مدار عقود من تاريخها وتجربتها الكفاحية.

بداهة، وبعد الانقسام، أصبح الموقف من القسام أشد قتامة وسوءًا، بيد أنه موقف عاد وتراجع بعدما طغت عليه الصورة التي تمكنت القسام من تقديمها عن نفسها بعد حربي 2012 و2014، وتحديدًا بعد الحرب الأخيرة، فقد بدت القسام ولأول مرة محل نوع من الإجماع الفلسطيني.

ظلّت كتائب القسام هدفًا للسلطة، وظلّت عملياتها محل تشكيك شديد، بما في ذلك عمليات الرد على استشهاد المهندس يحيى عياش، وبقي الحال كذلك إلى حين انتفاضة الأقصى، والتي ورغم اشتراك قطاعات من فتح فيها واستنساخها لأساليب حماس العسكرية، فإنها لم توقف الاستهداف تمامًا.

بداهة، وبعد الانقسام، أصبح الموقف من القسام أشد قتامة وسوءًا، بيد أنه موقف عاد وتراجع بعدما طغت عليه الصورة التي تمكنت القسام من تقديمها عن نفسها بعد حربي 2012 و2014، وتحديدًا بعد الحرب الأخيرة، فقد بدت القسام ولأول مرة محل نوع من الإجماع الفلسطيني.

صحيح أن كلمة الإجماع ليست دقيقة، فالقسام في النهاية ذراع حماس المسلحة، وحماس طرف أصيل في الانقسام الفلسطيني القائم، ومن قبل في المنافسة المحمومة مع حركة فتح، كما أن المقاومة المسلحة، ومع أنها تحظى بالتقدير على المستوى النظري، فإنها لم تزل محل جدل حول الجدوى والتوقيت والأدوات وكل ما يتصل بذلك، ولاسيما بعد تكريس فتح حزبًا للسلطة، وتكريس المفاوضات (وما يسمى بالمقاومة السلمية غير واضحة المعالم والتي لا تستند لأي برنامج واضح الخطوات والأدوات) خيارًا وحيدًا لمجابهة العدو.

ولكن باتت القسام تحظى بقدر ملاحظ من الهيبة، إلى درجة فصلها في الخطاب عن حماس حين مهاجمة الأخيرة من خصومها، وبالرغم من عدم دقة هذا الخطاب ومراوغته لتجريد حماس من أكثر ما يمكن أن تعتز به وبالتالي إضعاف موقفها في السجال الداخلي؛ فإن هذا الأمر انطوى على دلالتين:

أما الدلالة الأولى فهي احترام الجماهير للمقاومة وإيمانهم المتزايد بها بعدما تمكنت المقاومة في قطاع غزة من إعادة إنتاج صورة الفلسطيني وقدرته على الفعل في أسوأ الظروف غير المواتية، الأمر الذي أعاد للفلسطينيين ثقتهم بنفسهم، وأعاد بناء رؤيتهم لعدوهم، وأما الدلالة الثانية، فهي احترامهم لكتائب القسام تحديدًا وإيمانهم بها، لإدراكهم بأنها ليست الفاعل المقاوم الأكبر والأهم فحسب، ولكنها فوق ذلك متن المقاومة وعمودها الفقري، وإن لم تكن الفاعل المقاوم الوحيد.

الفصل بين حماس وذراعها المقاتلة، لعبة مكشوفة وبينة الأغراض، وهي لا تستخدم إلا مع حماس على وجه الخصوص من بين كل الفصائل المقاومة إن في فلسطين أو في الإقليم العربي، وذلك لأسباب؛ من أهمها الحسد السياسي أو البغض الإيديولوجي، بيد أن تحطيم حماس هو تحطيم لبيئة المقاومة التي وفرت فيها حماس ظروف العمل المناسبة لكل فصائل المقاومة، ومن ثم فمحاولة تجريد حماس من أهم فضائلها، هي محاولة لاجتثاث تلك الفضيلة.

الفصل بين حماس وذراعها المقاتلة، لعبة مكشوفة وبينة الأغراض، وهي لا تستخدم إلا مع حماس على وجه الخصوص من بين كل الفصائل المقاومة إن في فلسطين أو في الإقليم العربي، وذلك لأسباب؛ من أهمها الحسد السياسي أو البغض الإيديولوجي، بيد أن تحطيم حماس هو تحطيم لبيئة المقاومة التي وفرت فيها حماس ظروف العمل المناسبة لكل فصائل المقاومة، ومن ثم فمحاولة تجريد حماس من أهم فضائلها، هي محاولة لاجتثاث تلك الفضيلة.

المقاوم ليس قديسًا، هذا صحيح، وحماس حركة متعددة الجوانب، وهي بذلك تستحق نقدًا وتقويمًا مستمرًا، ومقاومتها لا تعطيها شهادة بالنجاح في كل جوانب اشتغالها، ولكن تحطيمها هو لا شك تحطيم للمقاومة، ولأن لعبة التمييز بين الحركة وجناحها العسكري لم تؤد الغرض، ولأن المتربص مستعجل، اتجهت محاولات التحطيم مباشرة لمفخرة حماس، أي لكتائب القسام.

أخيرًا، وبعد أزمة الكهرباء في قطاع غزة، استهدفت جهات مختلفة بالاتهام والتشكيك، كتائب القسام وأنفاقها ورموزها، ولاسيما محمد الضيف، بشكل مباشر وبلا مواربة، ودون الاختباء خلف لعبة فصل الكتائب عن حماس. كان العدو بطبيعة الحال من تلك الجهات، ولكن كان منها أيضًا صفحات إلكترونية وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي مجهولة المصدر، ومنها جهات محسوبة على خصوم حماس السياسيين.

جاء ذلك الهجوم بعدما كشفت الجهات الأمنية الصهيونية عن نجاح كتائب القسام في خداع العديد من جنود وضباط العدو، والتحكم بأجهزتهم الجوالة، والاستفادة من ذلك في أخذ معلومات أمنية وعسكرية حساسة.

استغلال أزمة الكهرباء لتوجيه الاتهام المباشر للقسام هو بالتأكيد استهداف للمقاومة بشكل أساسي، ولكنه أيضًا محاولة لتحطيم الإنجاز المعنوي الذي تحقق من بعد الحربين الأخيرتين، ومحاولة لتهشيم الاحترام والهيبة التي باتت تحظى بها المقاومة، على نحو جعلها، وبصرف النظر عن النوايا، خارج سجالات الخصوم السياسيين في الفترة الأخيرة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات