الإثنين 17/يونيو/2024

الانتخابات بين الضَّرورة الملحة وتخوفات المضرَّة القائمة

عبد الله العقاد

(1)
حينما صدّرت حكومة الحمد لله قرارًا بإجراء الانتخابات المحلية في مدن وقرى الضفة وقطاع غزة لم يكن المترجح لدى الكثير من المراقبين أن توافق حركة حماس، فتعلن العمل على إنجاح العملية الانتخابية شريطة تكافؤ الفرص، وضمان الشفافية، وتحقيق النزاهة، والحفاظ على مبدأ الحرية في الاختيار، والأهم العمل على إقرار النتائج واحترامها.

فهذا التوجه الذي حمله القرار على ما فيه من خطورة يعكس حالة من النضج السياسي، ومستوى عاليًا من روح المسئولية الوطنيّة، وهي يمكنها أن تضبط الإيقاع المفاهيمي لدى حركة حماس والقوى الوطنية للقضايا الكبرى.

ومما يجدر الإشارة إليه أن هذا القرار جاء ليتوافق تمامًا ونتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها مراكز دراسات مسحيّة متعددة، استنطقت العقل الجمعي الفلسطيني الذي أكد حرص الشارع الفلسطيني على انعتاق مسيرة التداول السلمي المسؤول لكل مؤسساته الوطنية الخدمية منها أو السيادية الكبرى.

(2)
والحديث عن رأي الشارع مهم جدًّا؛ فإنّ جيلًا كاملًا لم يشارك من قبل في عملية انتخابية جادة بهذا المستوى، فما يزيد على ما نسبته 40% من المسجلين دون الثلاثين عامًا، فهؤلاء لم يتفتق لدى الكثير منهم الوعي الوطني إلا تحت تأثير حصار مجرم دخل عامه العاشر على التوالي، أو احتلال عنصري مجرم يفرض وقائع كل يوم ويكرس واقعًا، وأكثرهم لم يعِ الظروف التي دفعت حماس إلى المشاركة في انتخابات كانت قد قاطعتها مع مجيء السلطة عام 1996م، تماشيًا مع رفضها لاتفاقية أوسلو البغيضة التي كرّست الاحتلال، واستنقذته من انتفاضة شعبية قطعت أشواطًا في مسيرتها نحو الحرية.

أجل، ثلث هذا الجيل بل أكثر لم يعلم بأنّ قرار حماس الأول بالمشاركة في الانتخابات التشريعية ومقاطعتها للانتخابات الرئاسية كان على أرضية تفاهمات القاهرة التي أبرمت في مايو 2005م، على قاعدة: “شركاء في الدم والقرار والمصير”.
هذا الاتفاق (اتفاق القاهرة) يقضي بأن يُخلّى بين الشعب وقرار مسئوليته الكبرى في إعادة بناء مؤسساته الوطنية، على قواعد التمثيل الحقيقي، بإجراء انتخابات فيما يمكن أن تُجرى فيه، والاحتكام لنتائجها دون تهرب تحت أي ذريعة.

(3)
ولكن مع أول محطة عملية لانطلاق قطار العمل الديمقراطي الحقيقي كانت حالة الرفض لنتائج البلديات التي أجريت في مراحل، بإيقاف مسيرتها عام 2005م بعد فوز القوائم التي شكلتها كتلة التغيير والإصلاح المدعومة من حماس في أكثرها، ولاسيما الكبرى منها.
غير أنّ هذا المسار تعطّل بالكليّة بعد الفوز الكبير لحركة حماس، وبرنامج الرفض لأوسلو الذي دخلت به الانتخابات عام 2006م.

وقد تعمدت جهات مدعومة من أطراف خارجية تأزيم الواقع الوطني الفلسطيني في اليوم التالي لانتهاء الفرز ومعرفة النتائج، وخرجت في تظاهرات عابثة تعبر عن سخطها التام على هذه الإرادة الشعبية وما أفرزته من نتائج.

فتزايدت عمليات الانفلات الأمني المتساوقة مع ما بشرت به سياسات الويلات المتحدة الأمريكية (الفوضى الخلاقة)، واستمر التلكؤ في تسليم مهام الوزراء الجدد، وازداد مع كل يوم التضييق على الحكومة (العاشرة) التي شكلتها كتلة حماس البرلمانية (التغيير والإصلاح).

وأكثر من ذلك كانت اشتراطات الرباعية الدولية المتعارضة بالتمام مع برنامج حماس الانتخابي قاطعة لهذا المسار، الذي عبّرت فيه الإرادة الشعبية الفلسطينية بما تريده بحرية وشفافية ونزاهة.
وفي ظل هذا الواقع وما تداعت إليه الظروف بعد النتائج الكبيرة والفارقة بين برنامجين مختلفين؛ أُدخل الشعب الفلسطيني بالمدن والقرى والمخيمات في حالة استقطاب حادة وقوية بين مكوناته الفصائلية، ولاسيما كبراها (حماس وفتح).

لم تستطع لردم الفجوة بين الحركتين كل أدوات العمل السياسي حتى وثيقة ما سمي التفاهمات الوطنية التي جاءت تطويرًا لوثيقة الأسرى أن تنهي هذه الحالة من الفرز، وما صحبها من التنابز بالألقاب بين شركاء الدم والقرار والمصير.

(4)
غير أنّ الأحداث في الميدان كانت تتصاعد باطراد بصورة مخيفة حتى وصلت إلى أحداث 14 يونيو 2007م، فأنتجت واقعًا سياسيًّا معقدًا نتيجة تولّد كيانين فلسطينيَّيْن تناصبا العداء، فقد اتّكأ كل منهما على شرعية شعبية.

فالأول منهما متكئ على شرعيته البرلمانيّة وبرنامجه المقاوم الذي انتخب على أساسه، والآخر متكئ على الشرعية الرئاسية، وعزز حضوره بالاعتراف الدولي به، كونه متماشيًا تمامًا مع الاشتراطات الرباعيّة.

وبين هذين الكيانين تكرس واقع لم يستفد منه أكثر من الاحتلال الصهيوني الغاشم، الذي أمعن بحصاره لشعبنا في قطاع غزة، وشنّ اعتداءات كثيرة، كان أبرزها حروبًا ثلاثًا استمرت أخراها أكثر من خمسين يومًا، ولم يكن شعبنا في الضفة بأحسن حالًا، وقد أمكنت سياسة فرض الواقع، وتغيير الوقائع الذي يزيف حقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة لمصلحة المشاريع الاستيطانية.

فلم يعد ما يمكن التفاوض عليه من الأرض، بل تجرّد المشروع السياسي القائم على التسوية السلمية من كل معناه الوطني، ولم يتبقَّ غير التلاهث على امتيازات لشخصيات نافذة تسهل مرورها من بوابات الإذلال اليومي التي تفصل بين (كانتونات) متناثرة هناك في الضفة، مقابل الحفاظ على وتيرة متصاعدة للتنسيق الأمني الذي أجهز على أواخر ما تبقى من المشروع الوطني ليتردى إلى هذه الحالة المذلة من الخزي والعار.

(5)
ونحن نذهب الآن إلى انتخابات محلية يجب ألّا يغيب هذا الواقع الوطني، الذي تكرّس نتيجة عدم احترام إرادة الجماهير الفلسطينية، وقد صودرت تلك الإرادة في الضفة، وعُوقبت -ولا تزال- في قطاع غزة.

ويبقى المزيد من الأسئلة: هل نحن فعلًا نسير في الطريق نفسها التي سلكنا من قبل عقد، أم أن الإرادة الدولية تغيرت فأضحت متقبلة للنتائج، أيًّا كانت، أم أنّ تلك الإرادة الدولية تريد أن ترى أثر العقوبات الجماعية على الوعي الجمعي الفلسطيني بعد خياره الأول منذ عشرة أعوام؟

أمّا على صعيدنا الداخلي فيمكن أن نسأل: هل الإرادة لدى الأطراف الفلسطينية صلُبت في مواجهة عوامل الضغط الخارجي؛ فهي متهيئة لقبول النتائج وتقريرها، مهما بلغت التحديات؟

إنّ الحقيقة المرّة أن أيًّا من تلك الافتراضات التي حملتها التساؤلات تلك لم تجد لها ما يصدق تغيرها للأحسن الواقع، فلا العالم تغّير إلا ليزداد سوءًا، ولا نحن ازداد إيماننا بوحدتنا، واعتزازنا بإرادتنا، بل لم نتحرر بعدُ من عُقْدة الآخر الذي يمعن في مصادرة حقنا، فالعالم منشغل في إقليم غارق بكليته في معارك وصراعات طاحنة تغذيها دعاوى مذهبية وإثنية وطائفية.

لذلك يجب أن تتجرد الانتخابات المحلية من أي مظهر سياسي، أو توجيه حزبي مباشر، غير حث الجماهير على انتخاب “القوي الأمين” ممن يصلح لهذه المواقع ذات الاختصاص الخدمي فقط.

فالضفة ما زالت تحت الاحتلال المباشر الذي يفرض نفسه في كل تفاصيل الحياة هناك، حيث تنعدم أدنى درجات السيادة الوطنيّة، وفي قطاع غزة لا يزال الحصار الغاشم يضرب أطنابه في كل مناحي حياتنا اليومية.

ندائي لكم -يا قادة الفصائل-: خلُّوا بين الشّعب ليُشكل قوائمه المهنيّة، ويختار الأفضل منها دون إملاء أو تأثير سياسي؛ فإنّ شعبنا قد بلغ رّشده وأتقن فصل الخطاب، في الوقت الذي لم ينفطم كثيرٌ من فصائلكم عن رضاع المانحين بعد.

[email protected]

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات