الإثنين 17/يونيو/2024

خطاب الهزيمة مُركّب نقص في الشّخصيّة الوطنيّة

عبد الله العقاد

 (1)
قديمًا قالوا: “الحروب ليست إلا عمليّات سياسيّة كبرى”، فلا يكفي أن تنتصر في الميدان لتتوج بالنّصر ما لم تكن قادرًا على استثمار ما ينجزه الميدان في تغيير مواقعك السياسية أو مراتبك في المفاعيل الدبلوماسية، فتنتقل من الانفعال إلى الفعل، ومن المفعول إلى الفاعل، ومن الجزم والجر والنّصب إلى حالة الرفع أو المنع من الصرف.

فهذه فرنسا قد سقطت كلّها في الحرب العالميّة الثانية، وتشكّلت فيها حكومة تابعة للاحتلال الألماني النازي، ولم يكن للحكومة الوطنيّة وجود رسمي فوق التراب الفرنسي، غير وجودها في مستعمراتها، ولكنها استثمرت بقاءها في القتال بجانب الحلفاء لتدخل تحت سيفي النصر وتتوج في قائمة المنتصرين الأقوياء.

(2)
ولكن في المقابل طالما أنجز الميدان إنجازاتٍ كبيرة وعظيمة غير أنّ النتائج السياسية كانت سقوطًا مدويًا؛ فتعطي العدوّ ما عجز أن يحققه في الميدان.

وفي هذا لم تكن حرب “6 أكتوبر” عام 1973م (العاشر من رمضان) إلا انتصارًا ميدانيًّا لا جدال فيه، ما تحقق إلا بإيمان المقاتل المصري العربي بقضيته، وبأنّه قادر على صنع الانتصار، وهذا ما جسر الفارق الكبير في الطبوغرافيا والإمكانات بين طرفي الصراع؛ فتجاوز المقاتل العربي كل العراقل وذلل تعقيدات الميدان جميعًا، فاقتحم بمعنويات عالية الموانع الطبيعيّة والتحصينات المصطنعة، التي أبرزها ما سمي خط (برليف) المنيع، بخطةٍ إبداعية، وتنفيذ فدائي مدهش، ومنقطع النظير.

غير أنّ التّرجمة السّياسيّة والتّحرك في الاتجاه المُعاكس بالزّيارة المُفاجئة إلى الكيان الغاصب، والتّوسل بها إلى استرضاء من يُعتقد بأنّ في يدها 99% من أوراق اللعب في المنطقة (الولايات المتحدة الأمريكية)، كما عبر عن ذلك رأس نظام (أنور السادات)؛ فتوقيع اتفاقٍ سياسي (كامب ديفيد) كرّس هزيمة “نكسة” حزيران 1967م، وأعطى الكيان العبري شرعيّة سياسية للأرض التي احتلها بالقوة وقطعًا لا يستحقها؛ أدت إلى نتائج سياسية مخيبة لكلّ الآمال التي عقدت على تلك الحرب، وآمال من تقاطرت أرواحهم في ملحمة بطولية جرّعت الاحتلال هزيمة قاسية كادت تطيح بكيانه كلّه.

(3)
نعم، يا للأسف!، إننا لم نستطع في كل معاركنا مع الكيان العبري أن نتجاوز “مركب النقص”، وحالة العجز في العمل السياسي؛ إذ يعبر هذا المرض المزمن في العقلية الرسمية العربية عن نفسه سياسيًّا بخطاب يقطر بالهزيمة في أخزى حالاتها وحللها وأقبح وجوهها سوءًا.

ولهذا لم يكن مستغربًا خطاب الاستجداء المذل الذي نسمعه من رأس السلطة في رام الله في كل مناسبة وغير مناسبة، وهو يتنصل من أيّ مظهرٍ من مظاهر الممانعة والمقاومة للواقع الذي يفرضه الاحتلال بمنطق القوة، وينتهك بهذا التعسّف كل الاعتبارات الإنسانيّة في ممارساته بحق أبناء الشّعب الفلسطيني العظيم، الذي قدّم ما يزيد على مائة وعشرين ألف شهيد طوال مسيرته النضالية، وتمكن أن يذلّ الكيان العبري في أكثر من واقعة وموقعة إلى أن وصل بنيران صواريخه إلى كل الجغرافيا الفلسطينية التي أُقيم عليها الكيان الغاصب.

ويزداد خطاب الهزيمة فجاجة في الوقت الذي نجد فيه ميدان المقاومة يحقق نقاطًا فارقة في حلبة الصراع وجبهات النزال، ونرى تصلّب عود المقاومين وقواهم التي يُؤازر بعضها بعضًا، فتجد المستوى السياسي للسلطة في المقاطعة يتعمد الإسفاف أكثر فيما يستخدمه من لغة دبلوماسيّة، بعد أن انحصر واقع التمثيل الرسمي في شخوصٍ تجاوزوا عن قصد المؤسسات السيادية للشعب الفلسطيني بما لها وما عليها، وتمردوا على قراراتها في واقع تمثيلهم العملي، ولم يستمعوا فضلًا عن الاستجابة لمقرراتها.

وقد كان أبرز أوجه عصيان هذه الطّغمة المتنفّذة تنصلهم من مقرّرات المجلس المركزي لمنظمة التحرير، الذي سحب في جلسته الأخيرة قبل عام الغطاء السّياسيّ والوطنيّ عن “التّنسيق الأمني”، الذي لم يكن يومًا وطنيًّا بل خيانة سياسية بالجملة بالمجّان، ومع ذلك يستمر “التّنسيق الأمني” بوتيرة متصاعدة في مواجهة الحراك الثوري المشتعل بالضفة الفلسطينيّة والقدس المحتلة.

وإنّه لا يمكن عزو هذا الخضوع المُذل من هؤلاء النّفر أمام ما يفرضه الاحتلال من وقائع غاشمة إلى غير “مركب النقص” في الجينات الوطنية المعتمل في شخوصهم باستمرار؛ فينتج حالة تشوه في الشخصية الوطنية تزداد مسخًا وتشوهًا باطراد عكسي مع كلّ تصاعد في الفعل المقاوم، أو ما يجري الحديث عنه من جسر الفجوات في جولات الحوار الوطني الجارية.

(4)نعم، لقد وقع الشّارع الفلسطيني في فاجعةٍ وطنيّةٍ، وهو يتابع من كثب الحراك الثوري المشتعل في مواجهة العربدة الصهيونية، وتغول قطعان المستوطنين على الأرض والإنسان، إذ طغمة متنفّذة تذهب لتقدم العزاء في ضابط صهيوني قُتل وهو يلهو فوق أرضنا المغتصبة، ويبادلهم الود مجموعة من قطعان المحتلين يحلّون مرحبًا بهم في المقاطعة، يباركون رأسها ويقدمون تمثالًا له تعبيرًا عن الامتنان له وما قدمه من خدمات يرون أنّها جليلة.

وأكثر من ذلك كانت المقابلة المتلفزة على القناة الثانية التي قدم فيها ذلك الرّأس كلّ آيات الولاء، وقرابين المودة، وتنكرًا لكل من يُقاوم هذا الواقع، وأبدى الامتثال لكل ما يُطلب منه، واستجدى إعطاءه الفرصة ليقوم بالمزيد.

(5)
بهذا الخطاب الشاذ يظهر التناقض التام بين مُكوّنات الحالة الوطنيّة، وهو ما يُعد نتيجة طبيعية لـ”مركب النقص”، وما يتولّد عنه الانفصام في الشخصية الـ(شيزوفرنيا)، وقد وصلت هذه الحالة المرَضية الشّوهاء إلى مستوى لا يمكن التعايش مع مطلقًا.

ولهذا ستبقى الساحة الفلسطينية في حالة عدم استقرار واضطراب في البرامج، تضرب بتأثيرها كلّ المستويات والساحات، ما لم تُفرز قيادة وطنية تتناغم مع الروح الثورية، وتتوافق مع متطلّبات التّحرير، وتستعد إلى تحمّل التّكلفة كاملة لإنجاز كل الحقوق الوطنيّة.

وإنّ حوارات الدّوحة ستبقى حلقة من سلسلة حلقات سبقتها لم تنتج غير مزيدٍ من تسويد الصفحات الفارغة المضمون، ما لم يتجاوز الشّعب الفلسطيني هذه الطّغمة المتنفّذة بعدما تنصلت من كلّ أعرافه وتهكّمت بكل ما يؤمن به.

وإن عامة الشّعب الفلسطيني يتحمل مسؤوليّة تغيير ذلك الواقع، غير أنّ حركة فتح هي أول من يتحمّل عبء هذا التغيير لأنّها هي من صدّرت أو قدمت الفرصة لتلك الطّغمة بقصد منها أو حين غفلةٍ من أمرها، وإلّا فلن يرحمها التّاريخ.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات