السبت 27/أبريل/2024

قوة إسرائيل المطلقة والنسبية

عبد الستار قاسم

قوة “إسرائيل” المطلقة هي تراكم القدرات العسكرية الإسرائيلية سواء في المعدات العسكرية التقليدية أو تلك المتعلقة بالإلكترونيات، والقوة النسبية هي مقارنة قوتها مع قوة الجهات التي تتحداها عسكريا.

القوة العسكرية الإسرائيلية المطلقة تزداد مع الزمن لأنها تقوم بتصنيع الأدوات القتالية الجديدة باستمرار، وهي عادة تقيم احتياجاتها العسكرية بمختلف أنواعها وتعكف على تحصيلها سواء بالتصنيع الذاتي أو من خلال الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة، فمنذ عام 2006 و”إسرائيل” تعمل بجد واجتهاد على تطوير ما يقيها القدرات العسكرية التكتيكية لدى أعدائها، وهي تصل الليل بالنهار من زاوية البحث العلمي والتجارب لتعزيز ثقتها بنفسها وبجيشها.

منذ عام 2006 طورت “إسرائيل” قدراتها الفضائية، ومكنت قدراتها على متابعة نشاطات المقاومة العربية في لبنان وفلسطين، وركزت بصورة أساسية على تطوير أجهزة الكشف عن الأنفاق، وعلى تكتيكات النشاط العسكري تحت الأرض، وهذا نشاط عسكري جديد على الجيش الإسرائيلي، حيث كان يرتب أوضاعه عادة لشن حروب فوق الأرض.

“القوة تشكل حاضنة تحدد مستوى الأقوال والأفعال، وكلما ارتفع منسوب القوة ترتفع الثقة بالذات ويرتفع صدى الأصوات المنطلقة، وكلما انخفض منسوب القوة ينخفض مستوى الثقة بالذات، وينخفض معها مستوى المطالب والطموحات وينحدر صدى الأصوات إن بقيت”

وتركز الصناعات العسكرية الإسرائيلية على تطوير جنود آليين قادرين على مواجهة العدو فوق الأرض وتحت الأرض، لكن نجاحها في هذا المجال لا يزال محدودا. وقد أعلنت “إسرائيل” مؤخرا عن تشكيل سلاح جديد تابع للجيش يختص بالحروب الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. ;

لا تتحمل “إسرائيل” خسائر كبيرة في جيشها، وتعمل دائما على تجنيب جنودها خطر الموت، كما أن نمط تدريباتها العسكرية قد تغير أو أُدخلت عليه عناصر جديدة، هناك تدريبات مستمرة على كيفية حماية المدنيين من ويلات الحرب، وأخرى على طرد قوات عربية تسيطر على المستوطنات اليهودية في شمال فلسطين وجنوبها.

كما تعمل “إسرائيل” دائما على مراكمة الأسلحة الذكية لديها والطائرات الإلكترونية، وقد قررت الولايات المتحدة تزويدها بطائرات F 35 الاستراتيجية، والأسلحة الذكية تأتيها باستمرار. وعليه يجب ألا نقلل من قدرات “إسرائيل” العسكرية، أو من قدراتها التدميرية إن هي أرادت أن تخوض حرب الأرض المحروقة.

تناسب القوة والفعل

المتتبع للتصريحات الإسرائيلية والنشاطات التدريبية يدرك أن “إسرائيل” لم تعد كما كانت، وأن متغيرات كثيرة قد طرأت على المواقف الإسرائيلية والصلف والتبجح الإسرائيليين. هذا ناجم بالأساس عن العلاقة الجدلية التي تربط القوة بالأقوال والأفعال. ;

فالقوة تشكل حاضنة تحدد مستوى الأقوال والأفعال، وكلما ارتفع منسوب القوة ترتفع الثقة بالذات ويرتفع صدى الأصوات المنطلقة، وكلما انخفض منسوب القوة ينخفض مستوى الثقة بالذات، وينخفض معها مستوى المطالب والطموحات وينحدر صدى الأصوات إن بقيت. ;

كلما ازداد المرء قوة بغض النظر عن شكلها، يرتفع مستوى شعوره بالعزة والفخار، ويتدفق فيه شعور احترام الذات والثقة بأنه صاحب كلمة حرة وصاحب رأي، والعكس يؤدي إلى الشعور بالضعة والهوان والاستسلام لإرادة الغير، وشعور الشخص بأن احترامه لنفسه يتقلص وأن الآخرين هم الذين يقررون له بالنيابة عن نفسه الهزيلة.

الأقوياء هم الذين يشكلون البيئة التربوية، وهم الذين يتحكمون بوسائل نقل المعلومات مثل جهاز التربية والتعليم ووسائل الإعلام، وهم الذين يضعون القانون ويفسرونه على هواهم. القانون محترم إذا كان في مصلحة القوي، ويتم تجاهله إذا تضارب مع مصلحة القوي وهواه، والأقوياء هم الذين يحددون معسكري الأعداء والأصدقاء، وهم الذين يوزعون النعم ويتحكمون إلى حد كبير بمصالح البشر، يقربون على هواهم ويحرمون كيفما يشاؤون.

هذا الشعور بالقوة الذي ملكته “إسرائيل” حتى نهاية القرن العشرين لم يعد موجودا، وتلك الغطرسة الإسرائيلية التي اعتاد العرب عليها تراجعت بصورة حادة، ذلك أن مساحة حوض القوة الذي كانت تسبح فيه “إسرائيل” تراجع بصورة كبيرة. أدركت “إسرائيل” المتغيرات، وبالتالي أدركت أن عليها ألا تطلق العنان لاستعراضاتها العسكرية حتى لا تقع بالوهم فتخدع شعبها والشعوب التي تؤيدها. ;

تأخذ جدلية السباحة في موازين القوة مكانها في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي، ولم تعد الأفعال تسبق الأقوال، بل بدأت الأقوال تطغى إلى حد كبير على البيئة العضلية التي تؤرق “إسرائيل”.

“من عوامل ضعف إسرائيل ظهور تنظيمات عربية إسلامية ذات عقيدة واضحة وقوية ضد الاحتلال الذي يدنس الأرض والمقدسات، وهي تنظيمات تُربي أعضاءها على التضحية والفداء في سبيل الله وتمجد الشهادة والشهداء، وتبث الغيرة في نفوس المنتسبين للوطن”

لاحظت في آخر اعتقال إسرائيلي لي، أن المحقق الإسرائيلي يركز على الأقوال في وسائل الإعلام وعلى الكتابات. عبر سنوات طويلة لم أسمع محققا إسرائيليا يسأل عن أقوالي وكتاباتي، لكن عام 2014 شهد تحقيقا مختلفا ما دفعني إلى القول للمحقق إن “إسرائيل” باتت كالدول العربية التي تلاحق الكلمة والتعليق، وقلت له إن هذا من شيم الضعفاء، وشكرا لله أن “إسرائيل” أصبحت تعاني من ضعف الثقة بالذات كما هي حال الدول العربية.

عوامل ضعف إسرائيل
ليست “إسرائيل” -كما قلت- ضعيفة من الناحية المطلقة، لكنها ضعفت نسبيا، وقد كان هذا واضحا في نتائج الحروب التي خاضتها أعوام 2006، 2008/2009، 2012، 2014. لم تستطع إسرائيل تحقيق إنجازات عسكرية، واختارت قتل المدنيين وهدم البيوت، لأنها تملك قدرة تدميرية عالية، ولكن يعود ضعفها النسبي إلى عدد من العوامل أهمها:

1- ظهور تنظيمات عربية إسلامية ذات عقيدة واضحة وقوية ضد الاحتلال الذي يدنس الأرض والمقدسات، وهي تنظيمات تُربي أعضاءها على التضحية والفداء في سبيل الله وتمجد الشهادة والشهداء، وتبث الغيرة في نفوس المنتسبين للوطن، وهي تنظيمات ليست ذات نفس فهلوي أو اعتباطي أو ارتجالي، وإنما تؤمن بالإعداد والاستعداد ماديا ومعنويا.

2- فضلا عن التربية الإسلامية الملتزمة تحرص هذه التنظيمات على تدريب أبنائها تدريبا عسكريا مميزا استعدادا للقاء العدو، وقد صنعت من الجندي العربي جنديا مختلفا عما عهدناه في الجيوش العربية أو التنظيمات غير الإسلامية.

3- حرص التنظيمات على المعايير الأمنية التي من شأنها حجب المعلومات عن العدو. شهدنا جيوشا عربية وتنظيمات مفتوحة تماما أمام أجهزة أمن العدو، وكانت دائما تتوفر معلومات غزيرة للعدو عن نشاطات الجيوش والتنظيمات وحتى عن النوايا. ;

لم تصل هذه التنظيمات إلى درجة النقاء الأمني التام لكن جهودها باتجاه ملاحقة الجواسيس والعملاء ومتابعة قدرات الأجهزة الإلكترونية مستمرة، وأوضاعها الأمنية تتحسن باستمرار. هذه تنظيمات تسهر على أمن جنودها وأمن مواطنيها ولا تترك الأمور للصدف و”الفهلوة”.

4- تطوير تكتيكات عسكرية لم يعهدها الجيش الإسرائيلي ولم يستعد لها على الأقل في السنوات السابقة، حيث رأت هذه التنظيمات أنه لا مجال لتحقيق تسليح يوازي تسليح الإسرائيليين من الناحية التقنية، وأيقنت أن “إسرائيل” ستبقى متفوقة من ناحيتي الكم والنوع، ويتوجب تطوير ما يمكن أن يحمي المقاومة العربية ويفسد على “إسرائيل” أعمالها، فطورت المقاومة الأنفاق وذلك لتحييد فعالية الطيران الصهيوني والقصف المدفعي.

لم تكن تملك المقاومة وسائل الدفاع الجوي، وليس بالإمكان امتلاك سلاح جوي، فابتكرت فكرة تعطيل مفعول طيران العدو باللجوء تحت الأرض، فاستطاعت بذلك الحد بصورة كبيرة من فعالية الطيران، وأيضا من سلاح الدبابات وذلك بامتلاك الصواريخ المضادة للدروع والمعدات العسكرية الثقيلة.

5- التطوير العسكري الذي انتهجته التنظيمات الإسلامية والذي مكنها من تطوير قدراتها الصاروخية وأجهزتها الإلكترونية. تمتلك التنظيمات الإسلامية ترسانة هائلة من الصواريخ والتي تطور مداها وتطورت حمولتها من المتفجرات، لقد ساهمت هذه الصواريخ في صناعة الرعب لدى مختلف الأوساط الإسرائيلية وخاصة في الأوساط المدنية، والتي تعتبر الخاصرة الرخوة جدا لـ”إسرائيل”.

وتمكنت المقاومة العربية من تطوير بنادق وأجهزة تنصت إلكترونية، ومن صناعة طائرات إلكترونية قادرة على جمع المعلومات، وقريبا ستكون المقاومة قد أتمت صناعة طائرات حاملة للأسلحة. لقد عوض هذا التطوير عن مخاطر قطع الطرق وقطع الإمدادات من الخارج، وتطورت مدن للصناعة العسكرية تحت الأرض دون أن تتمكن “إسرائيل” من الوصول إليها.

“لم تعد إسرائيل تشن حروبا كما كانت في السابق، فهي تدرك الآن أن حروبها لم تعد نزها، وأن جيشها يلاقي مقاومة صلبة قادرة على إفشاله، وتدرك إسرائيل ;أيضا أن نظريتها الأمنية التقليدية لم تعد قائمة، أو أن بعض أركانها الرئيسية لم تعد صالحة”

فضلا عن تطور المقاومة العربية، انحدر مستوى “إسرائيل” سياسيا واجتماعيا وعسكريا، حيث لم تستطع على مدى السنوات الثلاثين المنصرمة إفراز قيادة سياسية فعالة ولها قبول واسع على الساحة الدولية، لقد أصاب “إسرائيل” التفتت السياسي وبالكاد تصمد الحكومة الإسرائيلية أمام العواصف السياسية الداخلية.

انعكس التفتت الاجتماعي الإسرائيلي على الوضع السياسي، وأصبحت الائتلافات السياسية الإسرائيلية هشة جدا ويمكن إسقاطها بسهولة. ;

ومن الناحية العسكرية، لم يعد الجندي الإسرائيلي ذلك الذي كان في مرحلة بناء الدولة، الجندي الآن مترهل وخائف ومعنوياته مصابة بخلل كبير، أما تربيته العسكرية فتدهورت بصورة كبيرة أمام غزو حياة الرفاه والتقنيات الحديثة. مستوى استعداد الجندي الإسرائيلي للتضحية انخفض بصورة كبيرة، وغزته إغراءات الحياة المختلفة.

ضعضعة النظرية الأمنية
للأسباب أعلاه لم تعد “إسرائيل” تشن حروبا كما كانت في السابق، فهي تدرك الآن أن حروبها لم تعد نزها، وأن جيشها يلاقي مقاومة صلبة قادرة على إفشاله، وتدرك “إسرائيل” أيضا أن نظريتها الأمنية التقليدية لم تعد قائمة، أو أن بعض أركانها الرئيسية لم تعد صالحة.

لم تعد “إسرائيل” قادرة على خوض الحروب في أراضي العدو فقط، وإنما تمتد الحروب إلى الأراضي التي اغتصبتها، وهي تدرك أيضا أن الحرب الوقائية لم تعد فعالة، لأن التنظيمات القائمة حاليا على جهوزية عالية وهي مستعدة دائما وأصابعها على الزناد، وتدرك أيضا أن الكثير من الأسرار العسكرية للتنظيمات محصنة ولا تتمكن هي من الوصول إليها، وتعي جيدا أن قوة الردع لديها قد انخفضت وطور أعداؤها قدرة عسكرية يمكن أن تكون رادعة، خاصة إذا طالت الصواريخ المدنيين الإسرائيليين، وهذا ما يدفع “إسرائيل” إلى الانشغال باستمرار بهمومها العسكرية وتطوير تكتيكات وتقنيات جدية عل وعسى أن تعيد لجيشها هيبته القديمة ولسلاحها الجوي فعاليته.

تهدد “إسرائيل” أحيانا خاصة لبنان، لكنها لا تفعل شيئا، وهذا لم نعهده عن “إسرائيل” سابقا لأنها كانت تضرب قبل أن تهدد. الآن هي تهدد كثيرا، ونحن ندرك أن تهديداتها أشبه ما تكون بتهديدات العرب لها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

إنها تواجه الآن قوة ردع حقيقية، وقد لا تكون هذه القوة قادرة على دحر الجيش الإسرائيلي وتحرير الأرض العربية، لكنها قادرة على الأقل على إفشال الجيش الإسرائيلي إذا قرر خوض مغامرة عسكرية جديدة.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات