الثلاثاء 30/أبريل/2024

حراك المعلمين: حياة حقيقية وحيوية ممكنة

وسيم الكردي

(1)
إنها كلمة واحدة “الكرامة”؛ هي الشعار الرئيسي لحراك المعلمين، الكرامةُ أكثر من راتبٍ وأوسعُ من سلة حقوق، الكرامةُ عزة نفس، وأكثر من ذلك أيضاً.  وعزة النفس هي كل الإنسان بقيمه وحاجاته ورغباته وتطلعاته، “الكرامة ليست امتلاك المفاخر، بل استحقاقها”،[1] ولأن الفلسطينيين يرون في نيلسون مانديلا نموذجاً، ويتخذونه مثالاً، فلا بأس من إيراد قولين له حول الكرامة: “لا توجد قوة على هذه الأرض، تستطيع أن تقضي على التعطش للكرامة الإنسانية”، و”أي رجل أو مؤسسة يحاول سرقة كرامتي سوف يخسر”.  على الذين هم الآن في سدة “الحكم” في فلسطين، أن يدركوا أن “ثمن الكرامة والحرية فادح، لكن ثمن الذل أفدح”.[2]  وإن “الكرامة هي الملاذ الأخير لمن جار عليه الزمن”.[3]

(2)
المعلمون يبنون وحدتهم مرة أخرى بعد أن أزهقها “اتحاد معلمين” لا يكترث بمن يمثلهم، ويقف ضدهم أيضاً، وغدا مؤسسة من كثير من المؤسسات التي تحولت إلى عبءٍ بدلاً من أن تكون رافعة.  لماذا تحاول الحكومة تفرقتهم؟ إن وحدتهم ستتجاوز الشأن المطلبي؛ ستعزز حضور المعلمين ومكانتهم في المنظومة التربوية، وفي السياق الاجتماعي؛ فلماذا التشكيك بممثليهم الجدد الذين يحوزون على ثقة واسعة؟ لماذا التهديد بمتطوعين يحلّون مكانهم؟ لماذا التلويح “برشوة” معلمين سيكسرون وحدة المعلمين؟! لماذا التلويح بنسب الحضور والغياب التي لا تستند إلى مؤشرات دقيقة؟! مع أن إسنادها إلى مؤشرات لن يفيد إلا في التأجيج وليس الإثبات.  لماذا تحويل معلمين ومديرين إلى وشاة؟ لماذا تخويف معلمين بموقعهم الوظيفي أو بمصدر رزقهم؟! لماذا التهديد بفصل ذوي العقود المؤقتة إذا ما انضموا إلى زملائهم؟! إن محاولات تفتيت قوة المعلمين وكسر إرادتهم وهدر طاقاتهم، إن حصل، سيلحق ضرراً بالغاً بالمجتمع الفلسطيني بكل مكوناته، وسيحتاج إلى الكثير من أجل رتقه وجبره وإشفائه وإحيائه وتجديده، وقد لا يكون هذا الكثير ممكناً أصلاً.  إنها فرصة استثنائية وتاريخية لدرس في بث “الكرامة” و”الكبرياء” في عروق المجتمع كلها، وليس شريانه التعليمي فقط، فلنلتقطها.

(3)
المؤسسة التربوية في جوهرها مؤسسة لتدجين المنخرطين فيها وتصنيفهم، البنية الرمزية للمؤسسة التربوية لا تفعل غير ذلك، ولكن المجتمعات الحية تخترق هذه المنظومة، وتشاكسها، وتعيد طرح الأسئلة عليها، فتبزغ في داخل المنظومة الكلية ممكنات إبداعية، هذا ما ينبغي أن نشتغل عليه، وعلينا أن لا نتوقع من المؤسسة التربوية الرسمية أن “تحرر” التعليم، فهذا ضد وجودها أصلاً، علينا أن نحفظ طاقة الفعل الإبداعي في اختراقاته الدائمة لرتابة المنظومة التعليمية وعجلتها البيروقراطية.

(4)
الثلاثاء 7/ 3/ 2016، الأمن الفلسطيني يمنع المعلمين من الوصول إلى مجلس الوزراء في رام الله بإغلاق جميع الطرق المؤدية إليه، ويترك طريقاً طويلة نسبياً للوصول إلى ميدان محمود درويش، في هذه الطريق يمر المعلمون بالقرب من البنايات الأكثر علواً والأكثر “عصرية” في رام الله، يعبرون وهم يرون مقرات شركات وبنوك على جانبي الطريق، إن حدة الفارق تتجلى هنا بصورة صارخة! وكان الأمن قبل ذلك قد عرقل وصول المعلمين من مدنهم وقراهم إلى رام الله ليعتصموا أمام مجلس الوزراء … ينبغي علينا أن نمعن النظر فيما يعنيه ذلك وانعكاساته على البنية المجتمعية.

(5)
درع الأمن عليه شعار صادم؛ في أعلاه: “منظمة التحرير الفلسطينية” وفي الوسط: مكافحة الشغب، وفي الأدنى: قوات الأمن الوطني.  لا أعتقد أن هناك ما هو أكثر سريالية من هذا الشعار، ما بين حركة تحرر، إلى جهاز دولة، إلى مكافحة شغب …  في مواجهة معلمين يدافعون عن كرامتهم وحقهم في العيش … مفارقة محزنة وتثير الغضب.

(6)
هذا الحراك المجتمعي الذي يقوده المعلمون ينبغي أن يُرى فوق كونه حراكاً مطلبياً، وينبغي أن تضخ فيه ومن خلاله كل الأسئلة التي تتيح للمجتمع أن يستعيد عافيته من هذه الاستكانة التي يعيشها في معظم مناحي حياته، إن لم يكن جميعها.  إن هذا حراك في المجتمع، بغض النظر عن الدوافع والغايات، فهو يدل على أن هذا المجتمع حي، وطاقاته الكامنة يمكن لها أن تنهض.  إن اتّهامه بأنه فعل لتحقيق أجندات سياسية في ضوء الصراعات السياسية، قد يبث رسائل في منتهى الخطورة، حيث يتم فصل “السياسي” عن حياتنا، على العكس تماماً، إن الأبعاد السياسية لأي حراك كان يجب أن تظهر، وتغدو جزءاً من مكونات الفعل الديمقراطي في المجتمع، أما “الحزبي” و”الأيديولوجي” الضيق الذي يحشر الفعل الاجتماعي بين جدرانه، فهذا أمر آخر.

(7)
هناك معلمون في مجتمعنا الفلسطيني، وعلى الرغم من كل الظروف الصعبة والقاسية، تمكنوا من الارتقاء بالمهنة؛ واجتهدوا كثيراً في تطوير عملهم، وكان وازعهم الوحيد أن يكون لعملهم معنى على المستويين الشخصي والعام، ولكن هذا لا ينطبق على جميع المعلمين.  فحينما يحصل المعلم على حقوقه، يصبح أكثر إدراكاً لواجباته والتزاماته، وهذه فرصة لإعادة الاعتبار للمهنة، كما هي فرصة لإعادة الاعتبار لحيوية المجتمع التربوي، حينها يمكن تكوين المعايير التي تحفّز المعلمين، وتطور قدراتهم، وتضعهم أمام تحديات جديدة، وأمام مسؤولية تاريخية في الارتقاء بالتعليم في فلسطين، وهذا يساهم في تقرير ارتقائهم المهني والوظيفي.  لا يمكن أن نطالب المعلمين، عموماً، أن يذهبوا بالمهنة إلى مدى أبعد، وبخاصة فيما يخصُّ المحتوى التعليمي من ناحية، وأساليب التدريس من ناحية أخرى، وأن يسهموا بفاعلية في التغيير التربوي المنشود، قبل أن يحصلوا على حقوقهم الأساسية.  إن تحفيز المعلمين بعد ذلك يحتاج إلى رؤية متكاملة وبنية وظيفية تسمح بالمساءلة من ناحية، وبالمكافأة من ناحية ثانية.

 (8)
في كل ما يحدث، لا نرى إلا حكومة تتخبط، ووزارة تربية وتعليم تجاريها في التخبط.  كان ينبغي لوزارة التربية والتعليم، مع أن هذا فوق قدرتها، ويتعارض مع مصلحتها، وبعيد عن إمكاناتها، أن تتخذ موقفاً مختلفاً قليلاً، على الأقل، عن الحكومة، فهي الوزارة الأقرب لواقع المعلمين، وأعضاؤها هم الذين يعرفون الواقع ويتعاملون معه يومياً، وهم الذين سيتعاملون معه مستقبلاً، فكيف سيكون التعامل لاحقاً في ضوء هذه العلاقة التي تتهشَّم يومياً.

(9)
لا يبدو أن وزارة التربية والتعليم، أو بشكل أوسع الحكومة، مهتمة بنوعية التعليم في بلادنا بقدر اهتمامها برتوشه؛ إنها تهتم، إعلامياً، بملايين الحصص التي خسرها الطلاب مثلاً، لست متيقناً من أن كل ساعة يقضيها الأطفال خارج المدرسة في هذا السياق الذي نحن فيه هي أهم من الساعات التي لا ينكسر فيها هذا الانتظام، ويحيون داخله، وبخاصة إذا حاولنا أن ننظر بجدية وعمق لما يحدث في المدرسة الفلسطينية حالياً بصورة عامة، إن تغييراً جذرياً ينبغي أن يحدث في نوعية الساعات، وليس في عدد الدقائق.

(10)
لا نستطيع أن نطلب من المعلمين المواكبة والتطور والجدية إذا لم نقدم لهم الحد الأدنى من كرامة العيش، وإذا لم يكن واضحاً لهم مسار نموهم الوظيفي في غياب منظومة واضحة وشفافة ومتكاملة، لا يعرف المعلم فيها واجباته ومسؤولياته فحسب، بل يعرف أيضاً ممكنات تطوره المهني، والمسارات المحتملة لارتقائه الوظيفي.

(11)
أراد السيد وزير التربية والتعليم (قبل أن يغدو وزيراً) أن “يطيح” بالتوجيهي، وحينما دخل الوزارة، “كرّم” أوائل الطلبة الناجحين في التوجيهي (وفي هذا رسالة مزدوجة متضاربة المعاني)، ثم أصبحت الإطاحة “تعديلاً” للامتحان، وفي حراك المعلمين تحوَّل التوجيهي إلى “تهديد” بالتأجيل أو الإلغاء! فأي رسائل يبثها ذلك للمجتمع الفلسطيني بعامة، والمجتمع التربوي بخاصة؟!

(12)
إذا فقد المعلمون ثقتهم بوزير التربية، بعد أن تفاءل قطاع كبير منهم بوجوده على رأس الوزارة، ألا يتساءل السيد الوزير: كيف سيعمل على إحداث تطور نوعي في النظام التربوي، كما كان يعبر عن هذا الطموح بصورة شبه يومية قبل استلامه الوزارة في وسائل الإعلام، دون ثقة المعلمين؟ وإذا كان هذا هو موقفه من قضاياهم، فكيف له أن يقود تغييراً من المفترض أنهم سيقودونه معه؟!

(13)
لقد أبدى رئيس الوزراء اهتماماً هائلاً بالتعليم في فلسطين في بداية تعيينه، وبأن هذا القطاع يشكل أولوية أولى لوزارته، لكنه، وللأسف، لم يعد كذلك، بل يبدو أن التعليم صار في أدنى الأولويات.  لقد تجلّى اهتمامه بإنشاء هيئة عليا لمراجعة المسيرة التعليمية، (وُضِعت توصيات تقريرها جوهرياً على الرف).  وفي التعديل الوزاري، شجَّع على بعض التغيير واشترطَ عدم طلب ميزانيات إضافية للتعليم.

(14)
إن المعلمين يشكلون المحور الأساسي لأي تغيير في التعليم، ولكن ما تبثه المؤسسة التربوية الرسمية من رسائل، وما يجري من شائعات، لا يعكس هذا المنظور، ويتجلى ذلك في: 1) لا ترى المؤسسة التربوية، خارج الإنشاء، أي عدالة لحركتهم.  2) يُعتقد بسهولة استبدالهم بمتطوعين وبأولياء أمور وبقوائم الاحتياط التي تقدمت لسلك التعليم.  3) يُرى بأن أولوية التغيير في النظام التعليمي ينبغي أن تكون في “التكنولوجيا” وليس في البشر، ويصبح “نت كتابي” هو الأساس.  4) يتحدث عن امتحان توجيهي جديد يصحح إلكترونياً، إذن، فما الحاجة للبشر، ما الحاجة للمعلمين؟! وما الحاجة لتحسين شروط حياتهم المهنية والحياتية؟!

(15)
المعلمون ليسوا حزباً سياسياً، ولا كتلة واحدة متجانسة، هم مختلفون كاختلاف المجتمع، ولكنهم يشكلون فئة اجتماعية لها اهتمامات مشتركة، ومجالات عمل موحدة، تلتقي في أمور وتختلف في أخرى، ومن هذا الباب لا ينبغي علينا “تقديس” فعلها أو “تدنيسه”، فهي كفئة وكأفراد لها ما لها وعليها ما عليها، إن تحولها إلى قوة اجتماعية فاعلة بتمايزاتها، يمنح المجتمع طاقة نوعية، وممكنات مفتوحة على التفاعل الاجتماعي الإيجابي.  ولعل اتهام الحراك بالتسييس (وهذا لا يعني أنه ليس هناك من سيحاول استثمار ذلك لغايات سياسية ضيقة أو لتصفية حسابات أو للتشكيك … ) قاد إلى تسييس مقابل من خلال الاتهام نفسه من قبل سياسيين كان ينبغي عليهم أن يتركوا الحراك يأخذ مساره المجتمعي دون كيل اتهامات وإدانات وصلت إلى حد الشتائم أحياناً.

(16)
وكأن علاقات القوة في المجتمع لا تستند إلا إلى:

 “وما نيل المطالب بالتمني       ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”

 أليست هذه فرصة من أجل خلق تقاليد صراع اجتماعي في فضاء يتيح الحوار دون الكسر أو الانكسار؟!
_________________________________
 [1] أرسطو.
[2] جمال عبد الناصر.
[3] ماكس فريش.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

هنية يستقبل وفودًا جزائرية وتركية

هنية يستقبل وفودًا جزائرية وتركية

إسطنبول - المركز الفلسطيني للإعلام استقبل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، عدة وفود وشخصيات وبحث معهم تطورات الحرب الصهيونية على غزة،...