الكوميديا السوداء
منذ ما يزيد عن أسبوعين تتصدر قضية إضراب المعلمين الحكوميين قائمة اهتمام أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف مواقعهم، واهتماماتهم، وشرائحهم، وهذا الاهتمام أمر طبيعي، لأنّ أي بيت فلسطيني لا يخلو من وجود طالب بين أفراده، أو معلم. وانعكس هذا الاهتمام في تصدّر هذه القضية قائمة أولويات وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، وجلسات قهوة الصباح بين زملاء العمل، ودواوين العزاء، ووسائط النقل العام ….إلخ
في البداية، وقبل سرد بعض مشاهد ما يجري من مواقف وإجراءات يبدو بعضها مضحكاً مبكيّا في آن واحد، أعلن انحيازي التام لمطالب المعلمين المشروعة، وأؤكد على حقهم المشروع في تنظيم الإضراب، والمسيرات السلمية التي ترافقه، وذلك استناداً لأحكام القانون الأساسي المعدل للسلطة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك الفقرة الثالثة والرابعة من المادة (25)، واللتين تنصان على الحق في التنظيم النقابي والحق في ممارسة الإضراب في إطار القانون، ولأحكام المعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي انضمت دولة فلسطين إليه، بما في ذلك احترام وحماية الحق في حرية التنظيم النقابي والحق في ممارسة الإضراب في حدود القانون المعمول به.
منذ بداية الإضراب، دأبت الحكومة الفلسطينية، وبعض (المحللين السياسيين)!! للعمل على كسره، وأحياناً تشويه مقاصده النبيلة لإفشاله، من خلال ترويج بعض الاتهامات لقادة الإضراب، مستغلّة الواقع الفلسطيني القائم منذ العام 2007، وكان في مقدمة تلك الاتهامات (تسييس الإضراب)!! وفي هذا المضمار جنح خيال أحد هؤلاء (المحللين السياسيين) إلى تبرير ما فعلته أجهزة الأمن الفلسطينية في يوم (الثلاثاء الأسود) عندما نصبت حواجزها الأمنية على مداخل مدن الضفة الغربية لمنع وصول المعلمين إلى مدينة رام الله بتاريخ 23/2/2016، للمشاركة في الاعتصام المركزي أمام مقر مجلس الوزراء.
ففي حين ذهب دولة رئيس الحكومة، أ.د. رامي الحمد الله، في مقابلة مطولة نشرتها صحيفة القدس، للقول أنّ الإجراءات الأمنية التي تمت هي (لحماية المعلمين)!! والمحافظة على النظام في بعض المحافظات، ذهب خيال أحد المحللين بعيداً جداً، وجداً عندما نشر مقالة له على موقع (دنيا الوطن) الإلكتروني ونقل (معطيات خطيرة وصلته من مصادر وثيقة)!!، وصوّر أنّ من يقفون وراء هذا الإضراب كان هدفهم هو: (حشد عدد يصل إلى 50 ألف متظاهر أمام مجلس الوزراء؛ وإجبار رئيس الوزراء على النزول إلى المتظاهرين مكرها؛ والتوجه للضريح لعقد مؤتمر صحفي؛ وإعطاء الرئيس مهلة لتلبية المطالب؛ والزحف للمقاطعة ومحاولة تحييد الأمن؛ والسيطرة الشعبية على مواقع الأمن بعد احتلال مبنيي وزارتي المالية والتربية؛ وأخيرا الصلاة الجمعة في المقاطعة بعد تحريرها؟؟؟؟)…
حاولت الحكومة استخدام سياسة التهديد منذ بداية الإضراب، من خلال تصريحات رئيسها وغيره من المسؤولين فيها بأن الإضراب غير قانوني!! وأن الحكومة سوف تتخذ إجراءات ضد المعلمين المضربين!! فضلاً عن قيام الأجهزة الأمنية باعتقال عدد ممن تعتقد أنّهم من قادة الإضراب بعد مطالبة المعلمين باستقالة الأمين العام لاتحادهم، وإعلانهم الاستمرار في الإضراب حتى تحقيق مطالبهم. كما وحاولت تلك الحكومة إفشال الإضراب بوسائل أخرى، من خلال الضغط على المعلمين في بعض المحافظات لتفتيت وحدة موقفهم تارة، وترويج أنّها توصّلت مع قادة الإضراب إلى اتفاق لإنهائه، وإشغال مكبرات الصوت في المساجد للإعلان عن ذلك، ودعوة أولياء أمور الطلاب ومعلميهم للانتظام في الدوام.
في يوم (الثلاثاء الأسود) تجلّت (الكوميديا السوداء) في تعامل الحكومة، ممثلة بأجهزتها الأمنية التي نزلت إلى الشوارع، في (أوضح صورها). لقد رفع المعلمون شعار (كرامة المعلم) فأرادت الحكومة أن تكسر هذا الشعار وتحوله إلى شعار مضاد: (إذلال المعلم)!! سبق ذلك اليوم كتاب مُرْسَل إلى أصحاب وسائط النقل العام يحمل تحذيراً بعدم نقل المعلمين، وفي (اليوم المشهود) حدثت عشرات القصص التي تندرج في إطار هذه الكوميديا، وكان عنوان ذلك اليوم سؤال موجّه لسائقي حافلات النقل العام وسيارات الأجرة هو: (في معك معلمين)!!! و(يا ويل السائق الذي تصادف وجود معلم في سيارته) وكأنّه ممنوع على المعلم أن يمرض في ذلك اليوم ليذهب إلى طبيبه، أو أن يستغل مساحة الإضراب لقضاء أمر مؤجّل… وفي الحقيقة يصعب عليّ فهم معنى أنّ الإجراءات الأمنية التي تمت هي (لحماية المعلمين)!! أمام هذا السلوك.
في مشهد آخر من مشاهد (الكوميديا السوداء) إدخال الإعلام الرسمي، وبعض موظفي السلطة المحليين، والنشطاء المحسوبين عليها على خطّ الإضراب، ليس من نافذة المساهمة في إيجاد حل، وإنما لإنتاج أفلام رديئة الإخراج عن انتظام الدوام في بعض المدارس، وبثّها على شاشة التلفزيون الرسمي. عليّ الإقرار هنا بانّ الأنظمة الشمولية كانت أكثر ذكاءً في إنتاج مثل هكذا أفلام لترويج وجهة نظرها. عن هذه الأفلام رديئة الإخراج حدّث ولا حرج عليك عندما تحدّث.
يقول المثل الشعبي إن (الظلم على الجميع عدل). وإنْ كان الظلم ظلما، والعدل عدلاً، إلا أنّ هذا المثل يحمل حكمة تتعلق بعدالة توزيع الثروة. ما يحدث في بلادنا، هو عكس ذلك تماماً، بل إنّه أحد أسباب هذه الاحتجاجات. لقد أثبت قطاع المعلمين، كغيره من مكونات موظفي القطاع العام، تفهمّه للأزمات المالية التي كانت تعصف بالسلطة، وبخاصة عندما يكون سبب هذه الأزمات ناتجاً عن موقف تتخذه السلطة في وجه المال السياسي.
أما أن يصدر مجلس الوزراء الموقر في يوم (الثلاثاء الأسود) قراراً بصرف بدلات لمرافقي الوزراء قيمتها ألف شيكل شهريا وثمن لباس بواقع (800 شيكل) في العام (لا حاجة هنا لمن ينبهني بأنّ عدهم قليل)، في الوقت الذي كان فيه المعلمون يقفون خارج مقر المجلس تحت المطر، فأيّ حكمة هذه. أما أن يقر المجلس أيضاً الموازنة العامة للسلطة للعام الجاري ويكون نصيب قطاع الأمن (28%) ونصيب أكبر قطاعين مدنيين (295%)؛ (18% لقطاع التعليم) و(115% لقطاع الصحة) فهذا أمر يحتاج إلى تساؤل كبير.
لا يريد المعلمون من (يعلمهم) درساً في الوطنية، لأنّهم هم من علمونا الدروس في الوطنية. ولا يريد المعلمون من يذكّرهم بحق الطلاب في التعلّم، فهذا الحقّ ينطبق على أبنائهم وبناتهم وأخوتهم وأخواتهم، وأقاربهم، وبني عشيرتهم الأقربين. يريد المعلمون، الذين من أولويات واجباتهم أن يعلموا أبناءنا معاني العزّة والكرامة، أن نشعرهم بهذه المعاني أولاً.
مَنْ منّا ليس للمعلمين فضلٌ عليه، فليرمهم بألفِ حجرٍ، وحجر…
* شاعر وحقوقي فلسطيني من الضفة الغربية
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك
الرابط المختصر:
أخبار ذات صلة
مختارات
الجنائية الدولية تحذر من محاولات تقويض استقلاليتها
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام دعت المحكمة الجنائية الدولية، الجمعة، إلى وقف محاولات تقويض استقلاليتها أو إعاقة مسؤوليها أو تخويفهم أو التأثير...
الإعلام الحكومي يكشف إحصائية جديدة لمجازر الاحتلال منذ بدء العدوان
غزة – المركز الفلسطيني للإعلام أكد المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، اليوم الجمعة، إن قوات الاحتلال الإسرائيلي، ارتكبت حتى اليوم 3070 مجزرة ضد...
دروع بشرية واحتجاز رهائن.. هكذا يداري الاحتلال جُبنه وخسّته بجرائمه
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام منذ دخول قوات الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة، يظهر بين الحين والآخر ما يؤكد حالة الهلع والجبن لديها من المواجهة...
جامعة روتجرز الأمريكية توافق على معظم شروط الطلبة مقابل فض اعتصامهم
نيويورك - وكالات وافقت جامعة روتجرز في ولاية نيوجيرسي الأمريكية على عدد من مطالب المتظاهرين الذين أقاموا اعتصامًا في قلب الجامعة. واختارت الجامعة...
خطيب الأقصى يحذر من عواقب اعتداءات المستوطنين ويدعو لحمايته والدفاع عنه
القدس المحتلة- المركز الفلسطيني للإعلامدعا خطيب المسجد الأقصى الشيخ محمد حسين، اليوم الجمعة، إلى حماية المسجد المبارك والدفاع عنه أمام مخططات...
3 مجازر و26 شهيدًا بعدوان الاحتلال على غزة في 24 ساعة
غزة - المركز الفلسطيني للإعلام أعلنت وزارة الصحة بغزة أن الاحتلال ارتكب 3 مجازر ضد العائلات في قطاع غزة وصل منها للمستشفيات 26 شهيدا و51 إصابة خلال...
انتفاضة الطلاب تصل إلى المكسيك.. خيام أمام أكبر جامعات البلاد دعماً لفلسطين
مكسيكو - المركز الفلسطيني للإعلام في إطار الاحتجاجات الطلابية في الجامعات تضامناً مع غزة، أقام عشرات الطلاب والناشطين المؤيّدين للفلسطينيين في...