عاجل

الجمعة 03/مايو/2024

الكوميديا السوداء

سميح محسن *

 منذ ما يزيد عن أسبوعين تتصدر قضية إضراب المعلمين الحكوميين قائمة اهتمام أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف مواقعهم، واهتماماتهم، وشرائحهم، وهذا الاهتمام أمر طبيعي، لأنّ أي بيت فلسطيني لا يخلو من وجود طالب بين أفراده، أو معلم. وانعكس هذا الاهتمام في تصدّر هذه القضية قائمة أولويات وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، وجلسات قهوة الصباح بين زملاء العمل، ودواوين العزاء، ووسائط النقل العام ….إلخ

أعلن انحيازي التام لمطالب المعلمين المشروعة، وأؤكد على حقهم المشروع في تنظيم الإضراب، والمسيرات السلمية التي ترافقه

في البداية، وقبل سرد بعض مشاهد ما يجري من مواقف وإجراءات يبدو بعضها مضحكاً مبكيّا في آن واحد، أعلن انحيازي التام لمطالب المعلمين المشروعة، وأؤكد على حقهم المشروع في تنظيم الإضراب، والمسيرات السلمية التي ترافقه، وذلك استناداً لأحكام القانون الأساسي المعدل للسلطة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك الفقرة الثالثة والرابعة من المادة (25)، واللتين تنصان على الحق في التنظيم النقابي والحق في ممارسة الإضراب في إطار القانون، ولأحكام المعاهدات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي انضمت دولة فلسطين إليه، بما في ذلك احترام وحماية الحق في حرية التنظيم النقابي والحق في ممارسة الإضراب في حدود القانون المعمول به.

منذ بداية الإضراب، دأبت الحكومة الفلسطينية، وبعض (المحللين السياسيين)!! للعمل على كسره، وأحياناً تشويه مقاصده النبيلة لإفشاله، من خلال ترويج بعض الاتهامات لقادة الإضراب، مستغلّة الواقع الفلسطيني القائم منذ العام 2007، وكان في مقدمة تلك الاتهامات (تسييس الإضراب)!! وفي هذا المضمار جنح خيال أحد هؤلاء (المحللين السياسيين) إلى تبرير ما فعلته أجهزة الأمن الفلسطينية في يوم (الثلاثاء الأسود) عندما نصبت حواجزها الأمنية على مداخل مدن الضفة الغربية لمنع وصول المعلمين إلى مدينة رام الله بتاريخ 23/2/2016، للمشاركة في الاعتصام المركزي أمام مقر مجلس الوزراء.

ففي حين ذهب دولة رئيس الحكومة، أ.د. رامي الحمد الله، في مقابلة مطولة نشرتها صحيفة القدس، للقول أنّ الإجراءات الأمنية التي تمت هي (لحماية المعلمين)!! والمحافظة على النظام في بعض المحافظات، ذهب خيال أحد المحللين بعيداً جداً، وجداً عندما نشر مقالة له على موقع (دنيا الوطن) الإلكتروني ونقل (معطيات خطيرة وصلته من مصادر وثيقة)!!، وصوّر أنّ من يقفون وراء هذا الإضراب كان هدفهم هو: (حشد عدد يصل إلى 50 ألف متظاهر أمام مجلس الوزراء؛ وإجبار رئيس الوزراء على النزول إلى المتظاهرين مكرها؛ والتوجه للضريح لعقد مؤتمر صحفي؛ وإعطاء الرئيس مهلة لتلبية المطالب؛ والزحف للمقاطعة ومحاولة تحييد الأمن؛ والسيطرة الشعبية على مواقع الأمن بعد احتلال مبنيي وزارتي المالية والتربية؛ وأخيرا الصلاة الجمعة في المقاطعة بعد تحريرها؟؟؟؟)…

منذ بداية الإضراب، دأبت الحكومة الفلسطينية، وبعض (المحللين السياسيين)!! للعمل على كسره، وأحياناً تشويه مقاصده النبيلة لإفشاله

حاولت الحكومة استخدام سياسة التهديد منذ بداية الإضراب، من خلال تصريحات رئيسها وغيره من المسؤولين فيها بأن الإضراب غير قانوني!! وأن الحكومة سوف تتخذ إجراءات ضد المعلمين المضربين!! فضلاً عن قيام الأجهزة الأمنية باعتقال عدد ممن تعتقد أنّهم من قادة الإضراب بعد مطالبة المعلمين باستقالة الأمين العام لاتحادهم، وإعلانهم الاستمرار في الإضراب حتى تحقيق مطالبهم. كما وحاولت تلك الحكومة إفشال الإضراب بوسائل أخرى، من خلال الضغط على المعلمين في بعض المحافظات لتفتيت وحدة موقفهم تارة، وترويج أنّها توصّلت مع قادة الإضراب إلى اتفاق لإنهائه، وإشغال مكبرات الصوت في المساجد للإعلان عن ذلك، ودعوة أولياء أمور الطلاب ومعلميهم للانتظام في الدوام.

في يوم (الثلاثاء الأسود) تجلّت (الكوميديا السوداء) في تعامل الحكومة، ممثلة بأجهزتها الأمنية التي نزلت إلى الشوارع، في (أوضح صورها). لقد رفع المعلمون شعار (كرامة المعلم) فأرادت الحكومة أن تكسر هذا الشعار وتحوله إلى شعار مضاد: (إذلال المعلم)!! سبق ذلك اليوم كتاب مُرْسَل إلى أصحاب وسائط النقل العام يحمل تحذيراً بعدم نقل المعلمين، وفي (اليوم المشهود) حدثت عشرات القصص التي تندرج في إطار هذه الكوميديا، وكان عنوان ذلك اليوم سؤال موجّه لسائقي حافلات النقل العام وسيارات الأجرة هو: (في معك معلمين)!!! و(يا ويل السائق الذي تصادف وجود معلم في سيارته) وكأنّه ممنوع على المعلم أن يمرض في ذلك اليوم ليذهب إلى طبيبه، أو أن يستغل مساحة الإضراب لقضاء أمر مؤجّل… وفي الحقيقة يصعب عليّ فهم معنى أنّ الإجراءات الأمنية التي تمت هي (لحماية المعلمين)!! أمام هذا السلوك.

رفع المعلمون شعار (كرامة المعلم) فأرادت الحكومة أن تكسر هذا الشعار وتحوله إلى شعار مضاد: (إذلال المعلم)!!

في مشهد آخر من مشاهد (الكوميديا السوداء) إدخال الإعلام الرسمي، وبعض موظفي السلطة المحليين، والنشطاء المحسوبين عليها على خطّ الإضراب، ليس من نافذة المساهمة في إيجاد حل، وإنما لإنتاج أفلام رديئة الإخراج عن انتظام الدوام في بعض المدارس، وبثّها على شاشة التلفزيون الرسمي. عليّ الإقرار هنا بانّ الأنظمة الشمولية كانت أكثر ذكاءً في إنتاج مثل هكذا أفلام لترويج وجهة نظرها. عن هذه الأفلام رديئة الإخراج حدّث ولا حرج عليك عندما تحدّث.

يقول المثل الشعبي إن (الظلم على الجميع عدل). وإنْ كان الظلم ظلما، والعدل عدلاً، إلا أنّ هذا المثل يحمل حكمة تتعلق بعدالة توزيع الثروة. ما يحدث في بلادنا، هو عكس ذلك تماماً، بل إنّه أحد أسباب هذه الاحتجاجات. لقد أثبت قطاع المعلمين، كغيره من مكونات موظفي القطاع العام، تفهمّه للأزمات المالية التي كانت تعصف بالسلطة، وبخاصة عندما يكون سبب هذه الأزمات ناتجاً عن موقف تتخذه السلطة في وجه المال السياسي.

لا يريد المعلمون من (يعلمهم) درساً في الوطنية، لأنّهم هم من علموناالدروس في الوطنية. ولا يريد المعلمون من يذكّرهم بحق الطلاب في التعلّم،فهذا الحقّ ينطبق على أبنائهم وبناتهم وأخوتهم وأخواتهم، وأقاربهم، وبنيعشيرتهم الأقربين

أما أن يصدر مجلس الوزراء الموقر في يوم (الثلاثاء الأسود) قراراً بصرف بدلات لمرافقي الوزراء قيمتها ألف شيكل شهريا وثمن لباس بواقع (800 شيكل) في العام (لا حاجة هنا لمن ينبهني بأنّ عدهم قليل)، في الوقت الذي كان فيه المعلمون يقفون خارج مقر المجلس تحت المطر، فأيّ حكمة هذه. أما أن يقر المجلس أيضاً الموازنة العامة للسلطة للعام الجاري ويكون نصيب قطاع الأمن (28%) ونصيب أكبر قطاعين مدنيين (295%)؛ (18% لقطاع التعليم) و(115% لقطاع الصحة) فهذا أمر يحتاج إلى تساؤل كبير.

لا يريد المعلمون من (يعلمهم) درساً في الوطنية، لأنّهم هم من علمونا الدروس في الوطنية. ولا يريد المعلمون من يذكّرهم بحق الطلاب في التعلّم، فهذا الحقّ ينطبق على أبنائهم وبناتهم وأخوتهم وأخواتهم، وأقاربهم، وبني عشيرتهم الأقربين. يريد المعلمون، الذين من أولويات واجباتهم أن يعلموا أبناءنا معاني العزّة والكرامة، أن نشعرهم بهذه المعاني أولاً.

مَنْ منّا ليس للمعلمين فضلٌ عليه، فليرمهم بألفِ حجرٍ، وحجر…

* شاعر وحقوقي فلسطيني من الضفة الغربية

المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات