الأحد 28/أبريل/2024

حراكُ أيلول الفلسطينيّ وولادة الاحتجاج الاجتماعيّ

حراكُ أيلول الفلسطينيّ وولادة الاحتجاج الاجتماعيّ

مقدّمة

شهدت مدن الضفّة الغربيّة احتجاجاتٍ عارمة وغير مسبوقة، اندلعت بسبب موجة جديدة من غلاء الأسعار مسّت جميع المواد الاستهلاكيّة، وخاصّةً الوقود. وفي ظرفِ أيّام قليلة، خرج آلاف الفلسطينيّين للاحتجاج في ميادين رام الله ونابلس والخليل وطولكرم وبيت لحم. وأغلق متظاهرون الشوارع بسيّاراتهم الخاصّة وبإشعال الإطارات، مردّدين شعارات تنادي بإسقاط رئيس حكومة الطوارئ في رام الله سلام فيّاض، وأخرى تطالب بإلغاء اتفاقيّة باريس الاقتصاديّة، بينما وُجِّهت الشّعارات ضدّ رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس.

يُعدّ هذا الحراك الاحتجاجيّ الأوّل من نوعه، فمنذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، لم تشهد فلسطين احتجاجات مطلبيّة مهمّة. وعلى الرغم من أنّ الفترة التي أعقبت فوز حركة المقاومة الإسلاميّة “حماس” بانتخابات المجلس التشريعيّ عام 2006 شهدت بعض تظاهرات الموظّفين، إلا أنَّ ذلك الحراك كان مسيّسًا ومدفوعًا من حركة فتح التي استغلّته لرفض نتيجة الانتخابات التشريعيّة في حينه. فالفلسطينيّون لم يستوعبوا التظاهرات يومًا إلا سياسيّة، وهو الأمر الذي يجعل هذا الحراك مهمًّا، خاصّة في ظلِّ حقبة الربيع العربيّ وسقوط أنظمةٍ بثوراتٍ شعبيّة كانت الظروف الاجتماعيّة الاقتصاديّة من أهمّ محرّكاتها.

واندلع هذا الحراك في وقتٍ تواجه فيه حكومة الطّوارئ الفلسطينيّة برئاسة سلام فيّاض والسلطة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة برمّتها أخطر التحدّيات منذ اتّفاق أوسلو. فالحركة الوطنيّة الفلسطينيّة منقسمة على ذاتها، والسلطة الفلسطينيّة وجميع الفصائل، بما فيها فتح وحماس، وصلت إلى طريقٍ مسدود في جميع المجالات. ولا تطرح أيّ منها رؤية، حتّى نظريّة، لكيفيّة الخروج من هذا الوضع. ولا تعرض أيّ منها إستراتيجيّة بخصوص القضيّة الوطنيّة عن كيفيّة إزالة الاحتلال والاستيطان، ولا عن كيفيّة معالجة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة، وفي مقدّمتها انتشار الفقر والبطالة وغلاء المعيشة الذي لم تعد شرائح واسعة من المجتمع قادرة على تحمّله.

تحاول هذه الورقة تقديم قراءةٍ تحليليّة عن الحراك الشعبيّ في مدن الضفّة الغربيّة ودلالاته وتداعياته بعد أن تسبّب في ارتباكٍ على مستوى النخبة السياسيّة والثقافيّة؛ وتتناول أيضًا الظروف والعوامل التي سبّبت الأزمة، والسيناريوهات المحتملة في ظلِّ خصوصيّة الوضع الفلسطينيّ المُقيّد بالاحتلال.

خطاب السلطة بعد الانقسام الفلسطينيّ: سلام فيّاض بوصفهِ “معجزة اقتصاديّة”

يصعب في السياق الفلسطينيّ فصل السياسيّ عن الاقتصاديّ والاجتماعيِّ، فالسلطة الفلسطينيّة التي تحكم بموجب الاتفاقيات المبرمة مع الاحتلال الإسرائيليّ ما لا يزيد عن 18% من مساحة الضّفة الغربيّة البالغ إجماليّ مساحتها 5800 كم2، لا تسيطر لا على حدود ولا اقتصاد. كما أنّها لا تستطيع حتّى التحكّم في أسعار السلع الأساسيّة في السوق لارتباطها باتفاقيّة باريس الاقتصاديّة التي تقضي بأنَّ أيَّ ارتفاعٍ في أسعار السّلع في السوق الاقتصاديّة الإسرائيليّة لا بدَّ أن يصاحبه ارتفاع في السوق الفلسطينيّة حمايةً للمنتج الإسرائيليّ في ظلّ اختفاء الحدود بين السوقين في حينه. وتُنفَّذ هذه الشروط حتّى بعد أن جرى الفصل بين السوقين عمليًّا، وأصبح الاقتصاد الإسرائيليّ ممرًا إجباريًّا للاقتصاد الفلسطينيّ وقيّمًا عليه.

نشأت عن ذلك مفارقة كبيرة، إذ إنَّ المواطن الفلسطينيّ يشتري السلع الاستهلاكيّة بأسعار السوق الإسرائيليّ مع أنّ معدّل الدخل الشهري للعامل الإسرائيليّ يعادل أربعة أضعاف معدّل الدخل الشهريّ للعامل الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة. وسعر اللتر الواحد من البنزين – على سبيل المثال – في فلسطين المحتلّة يزيد عن دولارين، وهو الأكثر ارتفاعًا في العالم بعد النرويج وتركيا وإسرائيل على التوالي.

لقد صاحب تهلهلَ الوضع الفلسطينيّ الداخليّ، انسدادٌ على المستوى السياسيّ في مشروع المفاوضات الذي عوّلت عليه قيادة منظّمة التحرير الفلسطينيّة، إلى غاية الانتفاضة الثانية. وتمسّكت به القيادة الفلسطينيّة بشكل كاملٍ وحصريّ بعد عرفات. لذلك، تحوّل خطاب السلطة بعد الانتفاضة الثانية إلى التّنمية والخطط الحكوميّة خلف شعارات إنهاء البطالة وتشجيع الاستثمار. ومنذ عام 2007 أصبح الدكتور سلام فيّاض (الذي لم تفز قائمته بأكثر من مقعدين في الانتخابات التشريعيّة) – رئيس وزراء حكومة الطوارئ في رام الله- رمزًا لخطاب المعجزة الاقتصاديّة.

وأيشأطلق فيّاض منذ تبوّئه رئاسة الوزراء عددًا من الخطط والمشاريع الاستثماريّة، والتي روّجت لها وسائل الإعلام المحليّة بوصفها “مشروع مارشال” الذي سوف يؤسّس دولةً واقتصادًا قويًّا يفرض نفسه على المجتمع الدوليّ. فالخطّة بحسب فيّاض هي “البناء من أجل التعجيل في إنهاء الاحتلال، أو البناء على الرغم من الاحتلال لإنهاء الاحتلال، وكذلك إقامة بنية تحتية وبناء مؤسسات ومأسسة آليات الحكم والإدارة كافة”[1]. ولكنَّ محلّلين قد لاحظوا أنَّ جوهر الخطط عكست “بأمانةٍ كبيرة، أجندة السياسات الاقتصاديّة المُعلنة في عقيدة ما اصطلح على تسميته إجماع ما بعد واشنطن”[2]، والتي رضخت لها السلطة الفلسطينيّة ووجدت تطبيقها المباشر في سياسات الحكومة (الأمن العام، وبناء المؤسسات المضبوطة مركزيًّا، وتوفير الخدمات لكسب المشروعية، ونموّ القطاع الخاص)[3].

لقد حذّر عددٌ من الاقتصاديّين من أنَّ كلّ هذه الخطط سيكون بلا جدوى، فلا يمكن للسلطة الفلسطينيّة إنجاز أيّ تقدّم اقتصاديّ -على مستوى التنمية أو على مستوى معيشة المواطنين- وهي لا تملك أدنى المقوّمات؛ لا أرض ولا مياه ولا حدود، عدا عن ارتباطها باتفاقية باريس الاقتصاديّة التي تجعلها “ذيلًا” اقتصاديًّا لتل أبيب بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى. لقد نصح الكثيرون بأنَّ القضية الفلسطينيّة ليست قضية اقتصاد بل هي قضية سياسيّة، وأنَّ تحييد السياسة والانشغال بالاقتصاد هو تأجيلٌ للأزمة وهروبٌ منها.

ومع ذلك فقد فتح خطاب حكومة رام الله شهية النّاس لوضعٍ معيشيٍّ أفضل داخل حدود الغيتوات، وأملوا في فرص عملٍ جديدةٍ للشباب. ومرّت سنوات من دون حصول شيءٍ سوى ارتفاع مستوى معيشة أوساط معيّنة من السكان. وازدياد ارتباط الاقتصاد الفلسطينيّ بأموال الدعم المشروطة سياسيّا. وحلّ الربيع العربيّ ورأى الفلسطينيّون الشعوب التي تحيط بهم تثور من أجلِ قضايا سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيَّة. وشهدوا أنظمةً تتهاوى وهم يراوحون أماكنهم بلا تقدّم، ثمَّ انكشف للنّاس أنَّ خطط “مارشال فلسطين” تتضمّن تطبيقًا لأوامر البنك الدوليّ لضمان استمرار التمويل الأجنبيّ، وأنّ هذه الأوامر تقضي بإجراءاتٍ تقشفيّة وخفضٍ للموازنة الحكوميّة ورفعٍ للضرائب، في بلدٍ متوسّط يُصنّف معدّل دخل الفرد فيه ضمن الدول الفقيرة، وتفوق أسعار سلعه الاستهلاكيّة الأسعار في بعض الدولِ الأوروبيّة.

ويأتي الحراك الشعبيّ لأيلول / سبتمبر 2012 بعد انقضاء مدّة السنتين التي حدّدها رئيس الحكومة سلام فياض “لبناء مؤسّسات الدولة وإثبات الجدارة” بما في هذه المقولة من سذاجة أو تساذج فلسطينيّ في مقابل تخابث غربيّ وخطاب استعماريّ، وكأن مشكلة الفلسطينيّين هي إثبات الجدارة “للحصول على دولة”.

لقد أدّت السياسات الاقتصاديّة للسلطة الفلسطينيّة؛ ورضوخها لأجندات التمويل الأجنبيّ وشروط الاحتلال الإسرائيليّ الاقتصاديّة؛ إلى تعاظم الفجوة في الدخل ومستوى الحياة بين شريحة قليلة مكوّنة من رجال الأعمال وكبار التّجار وكبار الموظّفين في أجهزة السلطة، وموظّفي الوكالات والمؤسّسات الأجنبية من ناحية، وغالبية الشعب الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة من ناحية أخرى، والذين لم يعد دخلهم يكفي لتغطية المتطلّبات الأولية للمعيشة، وبات وضعهم الاقتصاديّ يزداد سوءًا يومًا بعد آخر. وينطبق ذلك على شريحة واسعةٍ من الموظّفين والعاملين في القطاع العامّ وفي القطاع الخاصّ وصغار التجّار والمهنيّين والمزارعين وأصحاب الحوانيت وسائقي السيّارات والعاطلين عن العمل. لقد كان مشهد ثراء النّخبة المعولمة في رام الله مصدر حساسيّةٍ عالية لدى كثيرٍ من النّاس في رام الله ذاتها، وفي مدن فلسطين الأخرى التي لوحظت فيها كثافة الاحتجاج وحدّته خلال موجة التظاهرات.

لقد فشلت السلطة الفلسطينيّة في القيام بمشاريعَ اقتصاديّة حقيقيّة توفّر أماكن عمل في قطاعي الصناعة والزراعة، فلم تحاول الحكومة إقامة مناطق صناعيّة في المدن والبلدات التي تقع تحت ولايتها، ولم تحاول الاستثمار في المجال الزراعيّ ولم تبذل أيّ جهد حقيقيّ للقيام به. وعوضًا عن ذلك، اكتفى تحالف الحكومة مع رجال الأعمال، والعديد من رؤوس السلطة، بالاستثمار في المشاريع التي تدرّ أرباحًا سريعة مثل شركات الاتّصالات والعقارات وشراء الأراضي في المدن والبلدات الفلسطينيّة وفي المنطقة “أ” عمومًا.

وعلى أيِّ حال، لم يكن ردّ فعل الشعب على الأوضاع الاقتصاديّة الاجتماعيَّة أن يكون لولا الثقافة التي أنتجها خطاب السلطة الفلسطينيّة بعد انتفاضة الأقصى، ثقافة القروض البنكيّة والاستهلاك اللائق في بلدٍ يرزح تحت الاحتلال الاستيطانيّ، وتُستباح أرضه يوميًّا في هجمةٍ استيطانيّة غير مسبوقة هي الأقسى منذ النكبة[4].

لقد كان كلّ همِّ القيادة الفلسطينيّة استرجاع الشرعيّة التي سُلبت منها في الانتخابات التشريعيّة السابقة، وإنتاج مقارنةٍ اقتصاديّةٍ يوميّة بين الوضع في الضفّة الغربيّة والوضع في قطاع غزّة الذي تحكمه “حماس”. وعلى الرغم من نجاحها في تقليل شعبيّة خصمها المحليّ، إلا أنّها – في الوقت نفسه – أعدمت أيّ خياراتٍ سياسيّة تراهن على الشعب لمقارعة الاحتلال، وتراوحت تحرّكاتها السياسيّة ما بين طاولة المفاوضات والذهاب إلى المحافل الدوليّة لتحصيل اعترافات لا تعني على أرض الواقع شيئًا.

ما لم تدرجه السلطة في حساباتها أنَّ الفخَّ الذي شاركت هي في نصبه لغريمها في غزّة ستقع هي الأخرى فيه، بعد أن اعتلت “حكومة مستوطنين” سدّة الحكم في إسرائيل وضربت حصارًا على السلطة لأنّها لم تقبل التفاوض من دون تجميد الاستيطان، وبعد أن انشغل العالم والعرب بمستجدّات ثورات الشعوب التي أفرزتها حقبة الربيع العربيّ.

محتجّون جدد

لم يكن الشعب الفلسطينيّ بمعزلٍ عن الثورات العربيّة. وفي الحقيقة، كانت مدينة رام الله من أوائل المدن العربيّة التي شهدت تظاهراتٍ تحيّي الشعب التونسيّ عند نجاحه في إسقاط زين العابدين بن علي في كانون الثاني / يناير 2011، وقد زادت حدّة التحمّس للثورات العربيّة مع مليونيّات ميدان التحرير في مصر، حتى أنَّ مجموعةً من الشباب الفلسطينيّ قد قرّرت بعد تنحّي الرئيس المخلوع حسني مبارك تنظيم يومٍ لتظاهراتٍ تُلحق الفلسطينيّين بحقبة الربيع العربيّ. وقد اختير يوم 15 آذار / مارس 2011 لتظاهراتٍ حاشدة تقود عملية التغيير في فلسطين.

خطّط لهذه الفعالية مجموعة من الشباب العابر للأحزاب والفصائل السياسيّة الفلسطينيّة الذين اكتسب بعضهم خبرة التظاهر والتحشيد من المواجهات ضدَّ الجدار الفاصل. وكان منفذ تواصلهم هو الفيسبوك. وقد حاول شباب المجموعة طرح شعاراتٍ سياسيّة مثل المطالبة بعقد انتخابات المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ الذي تهيمن عليه حركة “فتح” والذي يعدّ المجلس التشريعيّ لكلّ الفلسطينيّين في العالم. كما حاول البعض رفع شعارات إنهاء المفاوضات وإسقاط أوسلو ووقف التنسيق الأمنيّ مع إسرائيل، فضلًا عن إنهاء الانقسام[5].

ولكنَّ عددًا من الأسباب حوّل هذه الفعالية إلى احتفالية، كان أهمّها قيام السلطة الفلسطينيّة بتبنّي الدعوة والتركيز على شعار إنهاء الانقسام، وهو في النهاية شعار عامّ يحمّل المسؤولية للجميع باستثناء الاحتلال. وقد منعت قوّات الأمن الفلسطينيّة المتظاهرين من التوجّه إلى الحواجز الإسرائيليّة أو الاحتكاك بجيش الاحتلال، مخافة أن تتحوّل التظاهرات إلى انتفاضةٍ جديدة، وهو خيارٌ كانت السلطة قد حسمت موقفها ضدّه منذ اعتلاء محمود عبّاس رأس المؤسّسة السياسيّة. كما دفعت الوزارات الحكوميّة والمدا

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

اشتباكات ومواجهات مع الاحتلال في الضفة

اشتباكات ومواجهات مع الاحتلال في الضفة

الضفة الغربية- المركز الفلسطيني للإعلامواصلت قوات الاحتلال عمليات الاقتحام والمداهمة لقرى ومدن الضفة الغربية، فجر الأحد، وسط عمليات اعتقالات وتصدي...