الأربعاء 01/مايو/2024

دراسة: الإمام حسن البنا والقضية الفلسطينية

دراسة: الإمام حسن البنا والقضية الفلسطينية

مقدمة:

منذ سنة 1968 تقود حركة فتح ساحة العمل الوطني الفلسطيني، وسنة 1987 أخذت حركة حماس تقاسمها النفوذ على هذه الساحة. وإذا ما علمنا أن الحركتين كلتاهما قد خرجتا من رحم الإخوان المسلمين (مع إدراكنا أن فتح اتجهت منذ مرحلة مبكرة اتجاهاً علمانياً)، فلعلّنا ندرك إلى أي مدى كان تأثير الإمام حسن البنّا وفكره في العمل للقضية الفلسطينية.

لقد حقّق الشيخ البنا ومدرسته ثلاثة نجاحات متميزة قلّما تتحقّق لشخص من الشخصيات أو حركة من الحركات:

الأول: نجح البنا في تقديم خطاب إسلامي يتّسم إلى جانب كونه شاملاً وناضجاً بأنه بسيط سهل الفهم؛ وهو ما جعل الخطاب الإسلامي ينطلق من أَسْر الفئات المثقفة والنخبوية (التي ميزت خطابات الأفغاني وعبده ورشيد رضا…) إلى الفئات الشعبية وإلى جميع طبقات المجتمع، والتي أخذت تتبنّاه وتترجمه في سلوكها وحياتها اليومية وممارساتها الاجتماعية ومواقفها السياسية.

الثاني: نجح البنا وحركته في تجاوز الخصوصية الإقليمية التي كانت عادة ما تطبع حركات التجديد والإحياء الإسلامية التي سبقته أو عاصرته، كالوهابية في الجزيرة العربية، والمهدية في السودان، والسنوسية في المغرب العربي، والنورسية في تركيا، وماشومي في إندونيسيا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية. ونجح البنا في بناء حركة تتجاوز الإطار الجغرافي المصري، ويتوزع أفرادها على معظم بلدان العالم الإسلامي، وتجمعات المسلمين في المهجر. بل وحقّقت حركته نجاحات كبرى لتصبح أقوى التيارات الشعبية في عدد من البلدان. وفلسطين هي أحد هذه النماذج.

الثالث: نجح البنا في تقديم حركة قابلة للحياة والتجدّد والاستمرار عبر الأجيال، ولا تزال هذه الحركة تتمتّع بالقوة والحيوية واتساع الانتشار (بعد أكثر من 57 عاماً على استشهاده)، على الرغم من كثرة الصّعاب التي واجهتها وعلى الرغم من محاولات سحقها وإضعافها وحرفها عن مسارها.

وعلى ذلك، فإننا عندما ندرس موقف الشيخ البنا من القضية الفلسطينية، لا نقوم بمجرد نفض الغبار في ملفات التاريخ عن سيرة مفكر أو مجاهد، وإنما نتعامل مع رجل نجح في صناعة الأحداث في عهده، ولا يزال فكره ومدرسته وحركته تشارك في صناعة تاريخ المنطقة المعاصر حتى بعد وفاته بأجيال. ولذلك، لا غرو أن حركة حماس (الذراع المجاهد للإخوان المسلمين الفلسطينيين) التي فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بأغلبية كبيرة في كانون الثاني/ يناير 2006، كانت تطلق على أحد صواريخها (التي استخدمتها في انتفاضة الأقصى) اسم “البنا”، وتهدي انتصاراتها السياسية والعسكرية إلى الشيخ البنا ورجال مدرسته.

وقلما تجتمع لحركة تلك النجاحات الثلاث في الجمع بين البعد الاجتماعي/ الطبقي والبعد المكاني الجغرافي والبعد الزماني، خصوصاً إذا ما كانت تسير عكس تيارات الحكم والسلطان، وتتعرض للملاحقة والمطاردة.

 

أولاً: رؤية الإمام البنا للقضية الفلسطينية:

1. أمة واحدة… وطن واحد… همٌّ واحد:

أراد الشيخ حسن البنا من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إحياء معاني الإسلام الصحيحة في النفوس والالتزام بتعاليمه عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة، وبناء الفرد المسلم والبيت المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة، وتخليص البلاد الإسلامية من الاستعمار بكافة أشكاله، وإقامة الخلافة الإسلامية الواحدة على بلاد المسلمين، وسيادة العالم [2]. وقدّم البنا طرحاً شاملاً للإسلام يغطي جوانب الحياة المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية… وغيرها. وهو ما جعل هذه الحركة متفاعلة مع الواقع ومع هموم المسلمين وقضاياهم. كما عبّر شعارا: “الجهاد سبيلنا”، و”الموت في سبيل الله أسمى أمانينا” عن رغبة في تحقيق جاهزية نفسية عالية لدى الأفراد في الدفاع عن أرض المسلمين وحمايتها وتحريرها.

وقد عدَّ الشيخ البنا الوطن الإسلامي وطناً واحداً وأمة الإسلام أمة واحدة. وكان من الطبيعي بناءً على هذا الفهم أن يهتم الإخوان المسلمون بقضايا المسلمين المختلفة، فيذكر الشيخ حسن البنا “إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره”، ولأن فلسطين كانت أسخن القضايا الإسلامية الحساسة في ذلك الوقت -وما تزال- فقد أولاها الإخوان المسلمون دائماً “المقام الأوفى في عنايتهم واهتمامهم”[3].

وقد رأى الإمام البنا أن الوطنية والعروبة والإسلام هي دوائر متكاملة غير متعارضة، وأن الشخص يسعه أن يعمل بكلّ إخلاص لمصلحة وطنه، ويعمل في الوقت نفسه لعالمه العربي ولعالمه الإسلامي[4].

وحسب البنا فإن المسلمين هم “أشدّ الناس إخلاصاً لأوطانهم…، ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية. فهم يعملون لوطن مثل مصر، ويجاهدون في سبيله ويفنون في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه. كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطنٍ إسلامي… وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرضٍ يقطنه مسلم جريمة لا تُغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا”[5].

2. فلسطين… المكانة والمسؤولية:

وعلى ذلك فإن اهتمام البنا بقضية فلسطين جاء في السياق الطبيعي لفهمه الإسلامي وفي صميم برنامج عمله، بل ومحكّ لاختبار مصداقية وجدّية فكره ودعوته. ولذلك يؤكد البنا أن “فلسطين وطنٌ لكلّ مسلم باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقرّ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله”[6]. ويرى البنا أن “قضية فلسطين هي قضية كل مسلم”[7]. ولفلسطين في تصوّر البنا مكانة خاصة فهي حسب قوله “تحتلّ من نفوسنا موضعاً روحياً قدسياً فوق المعنى الوطني المجرّد، إذ تهبّ علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة، وبركات النبيين والصديقين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وفي كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذّي الأرواح”[8].

وفلسطين في فهم الإخوان “أرض وقفٍ إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يفرّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جداً منها ولذلك فهي ليست ملكاً للفلسطينيين أو العرب فحسب، بل هي ملك للمسلمين جميعاً… فعلى المسلمين في كلّ مكان أن يساهموا عملياً في تقديم المال والدم للدفاع عنها”[9].

وفلسطين “قطعة من الجسد الإسلامي العام، ولبِنة قيّمة من بنيان الكيان الإسلامي”[10]. ويربط طرح الإخوان بشكل مُحكم بين الإسلام وفلسطين، وهو طرح لا يقرّر فقط المكانة الدينية لفلسطين أو الترابط العاطفي والتاريخي معها، ولكنه يعمل لتحمّل مسؤولية العمل والجهاد، ويعدّ التخاذل عن نصرتها تخاذلاً عن نصرة الإسلام نفسه… ولذلك فحسب الإخوان فإن القول “مالي ولفلسطين في هذه الظروف” معناه مالي وللإسلام… ليست قضية وطن جغرافي بعينه، وإنما هي قضية الإسلام الذي تدينون به، فما فلسطين إلا قطعة مصابة من الجسد الإسلامي العام، ولبنة مزعزعة من لبنات بنيانه، فكل قطعة لا تتألم لألم فلسطين ليست من هذا الجسد، وكل لبنة لا تختلّ لاختلال فلسطين ليست من هذا البنيان”[11]. ويتكرّر هذا الربط المُحكم في موضع آخر عندما ينصّ الإخوان على القول “وما الشعب الفلسطيني إلا أخٌ لنا، فمن قعد عن فلسطين فقد قعد عن الله ورسوله، وظاهر على الإسلام، ومن أعانها وبذل لها وأمدّها فقد انتصر لله ورسوله ودافع عن الإسلام”[12].

3. مشروع النهضة ومشروع التحرير:

ولذلك رأى البنا وجوب الجهاد لتحرير فلسطين ونصرة أهلها، وذكر في رسالة بعثها إلى السفير البريطاني في القاهرة “إن الإخوان سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلامياً عربياً حتى يرث الله الأرض ومن عليها” [13]. وقال في رسالة بعثها إلى رئيس وزراء مصر محمد محمود “إن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، وهي لغة الثورة والقوة والدم”[14].

عبَّر فكر البنا عن حالة نضج مبكرة ومتقدمة في جدلية العلاقة بين مشروع النهضة الإسلامية وبين تحرير فلسطين. فقد رأى البنا أن حلّ قضية فلسطين سيكون بتلازم خطى الوحدة والجهاد [15]. فالمشروعان بالنسبة له يمكن أن يسيرا جنباً إلى جنبٍ بحيث يسند بعضهما بعضاً ويكمل أحدهما الآخر. إذ إن تحرير فلسطين يستدعي العمل على نهضة الأمة لتستكمل عناصر قوّتها ووحدتها وبالتالي تكون مؤهلة للاستجابة لتحدي التحرير وهزيمة المشروع الصهيوني. وكذلك فإن الجهاد في فلسطين ومقاومة العدو تمثل بحدِّ ذاتها عنصراً هاماً في عملية استنهاض الأمة وتقديم النماذج وبثّ معاني الجهاد والعزّة والكرامة وكشف أعداء الأمة وفي توحيدها تجاه التحديات الكبرى. ويظهر أن البنا رأى في الخطين خطان متوازيان يمكن أن يعملا جنباً إلى جنب، فلا يُشترط توقف الجهاد بانتظار الوحدة، أو إقامة الخلافة، ولا يتوقف العمل لتحقيق الوحدة بحجة الانشغال بمشروع الجهاد أو التحرير. وهو الخط الفكري الذي تطرحه حماس. إذن، فليس ثمة تعارض بين المشروعين، ولا ينبغي تعطيل مشروع بانتظار إنجاز الآخر. ولذلك نجد في أدبيات الإخوان التي يعود بعضها إلى سنة 1936 أن العمل لقضية فلسطين لن تقف بركته عند تحقيق الوحدة العربية، بل إنها ستحقّق أيضاً الوحدة الإسلامية [16]. ورأى البنا أن قضية فلسطين وثورتها كان له أثر كبير طيب على بلدان المسلمين، فعندما قامت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936 أعادت الجهاد إلى الواقع مرة أخرى، وقام الفلسطينيون “يحسنون من جديد صناعة الموت”. وسرى هذا التيار “من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى شباب الإسلام والعرب”. وخاطب البنا أهل فلسطين “أيها الفلسطينيون، لو لم يكن من نتائج ثورتكم إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة وربح لكنتم الفائزين” [17].

ويربط البنا بين عدم القدرة على تحرير فلسطين وبين ضعف المسلمين وتخلفهم عن دينهم، وبمعنى آخر فإن عملية التحرير مرتبطة بعملية استنهاض الأمة فيذكر أن “قضية فلسطين لم تحل، ليس لأن المسلمين لا يقدرون، بل لأنهم لا يريدون، وهم لا يريدون لأنهم لا يشعرون، وذلك لأنهم مسلمون أدعياء” [18]. وبتعبير آخر نُشر في جريدة الإخوان سنة 1937 “لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق، وإن أشد ما يمكّن لأعدائكم في دياركم قعودكم عن نصرة إخوانكم” [19].

وفي سعيه لتشجيع التواصل بين المسلمين والدفع باتجاه مشروع الوحدة، اتصل البنا بعدد من القيادات العربية والإسلامية للحصول على دعمهم لعقد مؤتمر لنصرة فلسطين، وكتب البنا في 4/10/1937 في النذير إنه لا يكفي الاستماع لمطالب الفلسطينيين الشجاعة بتقرير المصير وتحقيق الوعود…، وإنما يجب عقد اجتماع للقادة للاعتراف بحقوق المجاهدين… بهذا المؤتمر نتجه نحو الوحدة والتقدم… أيها المسلمون لا تضيعوا دقيقة دون التحضير للتحرير، ولتكونوا قادرين بعد ذلك على اختيار ميدان المعركة بدل أن تُساقوا كالخراف… أيها المسلمون أنتم تحتاجون القوة وتحتاجون الوحدة التي هي أول خطوة

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

الاحتلال يُفرج عن النائب أحمد عطون

الاحتلال يُفرج عن النائب أحمد عطون

القدس- المركز الفلسطيني أفرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مساء اليوم الأربعاء، عن عضو المجلس التشريعي الفلسطيني أحمد عطون، وجددت إبعاده عن مدينة القدس...