الخميس 02/مايو/2024

تأملات في أفكار صهيونية

تأملات في أفكار صهيونية

في معظم أدبياتهم ومساجلاتهم المتعلقة بإدارة الصراع مع العرب، يحاول المنظرون والساسة الصهاينة والإسرائيليون تقويض الأسس التاريخية والفلسفية لفكرة أن الأمة العربية تستحق التعبير النظامي عن ذاتها وحدويا إما في دولة واحدة كحد أقصى أو من خلال نظام إقليمي تضامني قومي كالذي تضطلع به الجامعة العربية كحد أدنى.

لا تعالج المصادر الصهيونية والإسرائيلية تاريخ العرب بمنظور شمولي أو متكامل وإنما تعرض العرب تحت عدد من «التواريخ» التي تخص قبائل وملل ونحل وممالك وسلطنات وإمارات وشعوب وأكثريات وأقليات.. ومن خلال مقاربة مبتسرة وتجزيئية كهذه، يتم تكوين لوحة اجتماعية ثقافية سياسية عامة للمنطقة العربية موشاة بملامح التنافر والتدافع والصراع، لا يكاد الناظر إليها يوقن بأنه بصدد نواظم أو جوامع حضارية قومية لأمة واحدة في هذه المنطقة. وبالتداعي، يصبح وجود اليهود ودولتهم في هذه اللوحة(الخريطة)، قديماً ثم حديثاً، أمراً مفهوماً ومبرراً ويمكن الدفاع عنه!.

ولأن التاريخ لا يقبل العبث والتلاعب بحقائقه إلى هذا الدرك من السخافة والتهافت، فان الصهاينة ومن يوالونهم مطالبون أمامه بتفسير التناقض المذهل الذي تنطوي عليه روايتهم وما يتأتى عنها من سياسات وبخاصة تجاه الشعب الفلسطيني. فعندما تنفي هذه الرواية تكامل التاريخ الاجتماعي الثقافي السياسي الاقتصادي لأمة العرب، مؤكدة على الطابع الفسيفسائي لجماعات «الشرق الأوسط»، فإنها توجب الاعتقاد بأحقية الفلسطينيين في كيان سياسي (وليكن دولة) خاص بهم شأنهم شأن شعوب هذه المنطقة وجماعاتها.

كأن الرواية الصهيونية لـ «تواريخ جماعات» الشرق الأوسط تستدعي من حيث لم ترد، حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.. إذ لماذا يُستثني الفلسطينيون من هذا الحق قياساً بغيرهم من أصحاب هذه «التواريخ»؟

لكن الأهم من ذلك، أن هذه الرواية ذاتها والسياسات المشتقة عنها توجب من ناحية أخرى، ومن حيث لا تعي ولا تريد أيضاً، القناعة بوجود الأمة العربية وصدقية أحانينها ونوازعها نحو الوحدة والمصير المشترك.. كيف لا والحركة الصهيونية وإسرائيل تدعوان منذ ستين عاماً بإدماج اللاجئين الفلسطينيين واستيعابهم وتوطينهم في المحيط الإقليمي المضيف باعتبارهم «عرباً بين عرب»!.

لماذا تعمي أبصار المنظرين الصهاينة وبصائرهم عن المحددات الموجبة لوحدة العرب القومية في هذه المنطقة من العالم وعلى كافة الصعد، الا حين تكون هذه المحددات مؤدية إلى حل إشكالية مستعصية أمامهم كمصير هؤلاء اللاجئين؟ وبالمنطق ذاته يمكن أن يثار السؤال عما يستفز إسرائيل نحو الاستعداد والجهوزية العسكرية لمجابهة الدول العربية (فرادي أو مجتمعة)، طالما أن هذه الدول تفتقر ـ من المنظور الصهيوني الإسرائيلي ـ لعوامل التوحد ومن ثم للإحساس بالخطر المشترك؟!

بعبارات أخرى، لا تعترف المصادر والسياسات الصهيونية الإسرائيلية بالأرومة القومية العربية الغالبة في محيطها الإقليمي، وذلك كذريعة للقبول بالكيان اليهودي كواحد من الكيانات الكثيرة بزعمها التي يزخر بها هذا المحيط. بيد أن هذه المصادر ذاتها تستمرئ إدماج ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة لهم بناء علي السمات القومية الجامعة بين هؤلاء اللاجئين وسكان هذه الدول.

وهكذا فان عنوان المحيط الإقليمي لإسرائيل يتغير بشكل بهلواني، فهو «الشرق الأوسط» حينما يراد تبرير استزراع هذا الكيان الاستيطاني، لكنه يصبح «العالم العربي» عندما يراد منه استيعاب اللاجئين الذي اخرجوا من ديارهم جراء نشوء هذا الكيان!.

والظاهر أن قليلاً من المصادر الصهيونية أدركت أخيرا هذا التناقض فراحت تدعو إلى التسامح مع قيام دول فلسطينية أولاً، وتقرن ذلك بالإلحاح ثانياً على عودة اللاجئين إلى هذه الدولة. وبذلك تتحقق مقولتا «نحن هنا وهم هناك» و«دولتين لشعبين».

ظاهرياً، تبدو هذه الفكرة منطقية لكن التدبر في جوهرها يكشف عن خبائث وعيوب لا يستهان بها..منها بلا حصر، أنها تتعارض من ناحية مع مفهوم حق العودة كما هو مثبوت في متون القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان عموماً، وكذا مع قرارات الشرعية الدولية الفلسطينية بخاصة،التي تعني حق عودة اللاجئين إلى ديارهم التي غادروها عنوة قبل الرحيل القسري.

ومن ناحية ثانية، فان الدولة الفلسطينية المقصودة بالعودة في هذا الفهم تقع في حدود 1967، التي تضيق من حيث الجغرافيا والموارد عن استيعاب زهاء ستة ملايين من اللاجئين علاوة على الثلاثة ملايين ونصف من أبنائها الحاليين. ولأن إسرائيل تعلم ذلك فان العاطفين فيها على حق العودة إلى هذه الدولة لا يقصدون غير التسليم الفلسطيني بالتخلي عن معني العودة إلى ديارهم في «الداخل الإسرائيلي»، أما ما يلي هذا الهدف من مضاعفات وإشكالات فانه لا يعنيهم في شيء.

ويتجاهل مقترحو عودة اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية، من ناحية ثالثة، أن إسرائيل استولت عنوة بين 1948و1967 على 22 في المئة من فلسطين التاريخية زيادة على المساحة التي خصصها قرار التقسيم للدولة اليهودية.. ولو أراد هؤلاء الإنصاف وتوسيع الفرص أمام اللاجئين لاستطردوا في اقتراحهم إلى رد هذه المساحة للدولة الفلسطينية المزمعة في حدود الضفة وغزة والقدس فضلاً عن تنظيف هذه الدولة من كافة المستوطنين الإسرائيليين. ولن يكون في ذلك أي تفضل من إسرائيل تجاه الفلسطينيين في كل الأحوال.

تجدر الإشارة هنا إلى أن المتحمسين لعودة اللاجئين للدولة الفلسطينية يتذرعون بقضية التكامل الوطني التي تترتب على مثل هذه العودة بالنسبة للفلسطينيين مقابل نقاء الدولة يهوديا بالنسبة لإسرائيل. ويتساءل هؤلاء عن مغزى تعلق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم الأصلية الذي سيؤدي لوقوعهم تحت سيادة إسرائيل ويقضي على يهودية هذه الدولة؟!.

ونحسب أن هذا السؤال ينبغي أن يوجه إلى الجانب الصهيوني الذي آثر تقسيم فلسطين من الأصل، رغم علمه بأن الشطر اليهودي سيضم منذ لحظة ولادته عربا كثيرين (كان الرقم نحو 300 ألف!).إن هذه الحقيقة تعني أحد أمرين: فإما أن الصهاينة لم يكونوا حريصين على دولة يهودية خالصة، وإما أنهم كانوا يضمرون إبادة العرب الفلسطينيين الأصليين أو تهجيرهم من هذه الدولة وهذا ما حدث بالفعل.

غير أن القبول الصهيوني بالتقسيم مع وجود «أقلية فلسطينية» كبيرة قد تصل إلى نصف سكان الدولة اليهودية يومذاك، يجعلنا نسخر من الحجة الإسرائيلية القائلة الآن بان عودة اللاجئين إلى ديارهم ستقضي على الطابع اليهودي لإسرائيل. فهل فطن الصهاينة الآن إلى ما غفل عنه آباؤهم المؤسسون؟. أم أن أولئك الآباء كانوا متحرقين للاستحواذ على دولة مهما كان محتواها لعلمهم بأنه لا أحقية لهم في دولة، يهودية كانت أم مختلطة؟!
 
* صحيفة البيان الإماراتية

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات

عدنان البرش.. الطبيب الإنسان

عدنان البرش.. الطبيب الإنسان

غزة – المركز الفلسطيني للإعلاملم يترك الدكتور عدنان البرش (50 عامًا) مكانه ومهمته في إنقاذ جرحى حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية بغزة، حتى اعتقاله...