عاجل

الجمعة 03/مايو/2024

حماس والقرارات الصعبة

أحمد سلامة
يبدو أن قرار الدخول في الانتخابات، كان البوابة التي هبت من خلالها رياح المعادلات البنائية المعقدة، التي تختلف عن مرحلة كرست لهدم المشروع التفاوضي الذي عاد بالقضية إلى قاع الزمن ومرغ أنفها في وحل التنسيق الأمني ،بالتزامن مع زعزعة الكيان من خلال مقاومة تدمي مقلة عدوها فترهقه عن التمادي في التوسع وتجبره على الانحصار خلف جدر محصنة ..مرحلة كانت كل ما تحتاجه معول هدم يضرب في أسس بيت قديم كاد أن يخر السقف على أهله من فوقهم فتضيع قضيتهم وهم لا يشعرون، حتى استقر ركاما خامدا لا يقنع الشعب بمساره الإتبطاحي الذي لا يرتضي سوى الاستجداء سبيلا واحدا وخياراً مجردا حتى وإن كانت نهايته حق ضائع وأرض مفتتة .

كان على حماس أن تعمل أدواتها لإزالة الردم الباقي من سلطة هزيلة جاءت في وقت خاطئ بقرار كارثي؛ محققة سابقة تاريخية لم تشهد لها الثورات مثيل من خلال أول سلطة في ظل الاحتلال ..قبل الشروع في عملية بناء تحتاج صلابة الأسس ومتانة البنيان وإبداع الإنشاء ..لكن المخططات التي عصفت بالمنطقة لتحيي عظام السلطة وهي رميم فتعيدها من ركامها بدئاً بانتخابات رئاسية وليس انتهاءً بانتخاباتً برلمانية، قطعت الطريق على معاول حماس التي باتت في حيرة من أمرها، مخيرة بين مشاهدة صامتة لبناء ما بذلت لتهدمه ردحاً من الزمن وبين التدخل لتعطيل هذا البناء أو حرف خطواته المتسارعة نحو تفريط جديد رسمت خارطته في طريق الخيانة، في الوقت الذي لم يكن خيار المواجهة مطروحاً ولا منطقياً.

كم كان صعباً على حماس أن تدخل مؤسسة طالما كان حلها هو الأمنية، وإزالتها هو المراد؛ لكن الظروف التي جعلت حلها صعباً إن لم يرتق درجة المستحيل، في ظل شرذمة صفراء عضت عليها بالنواجذ، باعتبارها بقرة حلوب تدر على أصحابها ما لذ من مال وما طاب من جاه وما عز من سلطان ..استلزمت تكتيكاً جديداً ومرحلة مختلفة في التعامل، استدعت الدخول في الإنتخابات، ليس من باب الرضا بنهج الديمقراطية الوضعية، إنما من باب وقف الاستنزاف في منهج الشريعة الراشدة ،وإخماد السيوف التي عملت على ذبح القضية الفلسطينية الرائدة
اجتازت حماس هذا المخاض السياسي المعقد، وحسمت أمرها واتخذت قرارها الذي محصته مجالس الشورى ودققته دوائر الفتوى ، مدركةً ما سيوقعه هذا القرار من نقلة نوعية ومنعطف كبير في مسيرة الحركة ونهجها المتدفق، يمكن استشفاف خطورة القرار من مكان إعلانه، الذي اتخذ من الضفة الغربية على لسان محمد غزال منطلقا له للخروج من أروقة السر إلى ساحات العلن، ليقطع الطريق على من يغني على اسطوانة مشروخة تراهن على تصدعات الأجنحة الحركية الممتزجة بين غزة والضفة والخارج والسجون.

تجاوز القرار كل التخوفات المتربصة والأخطار المحدقة من أن يحول حماس إلى هامش سياسي في ورق البرلمان الأصفر، مثبتا نجاحاً باهراً في نزع الشرعية عن المخططات التسووية وإضفائها على المقاومة البطولية، وحقق نجاعةً منقطعة النظير في هدم الطموحات الأمريكية والتطلعات الصهيوفلسطينية، من خلال الاكتساح البرلماني الذي انتقل بحماس إلى قرار ربما هو أصعب من سابقه تضخمت من خلاله النقلات النوعية التي أحدثها دخول البرلمان.

قرار لم تجد حماس بداً من اتخاذه، عندما منحها الشعب ثقةً مطلقة ووضعها في مقدمة الصفوف وسلط عليها جميع الأنظار فوقع عليها كتاب التكليف بتشكيل أول حكومة تقودها حماس ،في نظام سياسي لا تملك في مفاصله موظفاً صغيراً فضلاً عن مدير من الحجم الوسط أو حتى الصغير، في ظل مؤسسة أمنية صنعت أصلا لضرب حماس وتجفيف منابعها، مطلوب منها اليوم أن تعمل في خدمتها أو تدور في فلكها، وقد هبت رياح التهديدات الأمريكية بقطع المساعدات عن الشعب الفلسطيني وفرض حصار اقتصادي وعزلة سياسية اهتز لها الذنب الأوروبي بالموافقة سريعا في ظل تواطؤ عربي وإقليمي، والداخلي معلوم بالضرورة من الضربات الخماسية ذات الطابع البلدي!!!!

رغم صعوبة الموقف الذي لم تكن تسعى إليه حماس، مبرأةً من حب الجاه والمنصب والسلطان ،لم يكن لها مفر من قبول تشكيل الحكومة ،حتى لا تنكث عهدها مع أناس انتخبوا برنامجها التنفيذي كما صوتوا لقرارها السياسي ،قبول ينقل حماس من السير في طريق واحد نحو هدم المهازل السياسية التفريطية من خلال المقاومة المجردة ،إلى الإشراف على شبكة طرق متعددة منطلقة نحو بناء دولة المقاومة وثقافة التحدي..

وككل عملية بناء، تحتاج إلى التخصص المبدع في الإنشاء، واللمسات الفنية في عملية القصارة، والذوق الرائق في عملية الطلاء، إلى الهندسة الذكية، تختلف عن عملية الهدم التي لا تحتاج إلا إلى صرامة المعاول وصلابة السواعد،
فكيف إذا اجتمع البناء السياسي مع الهدم المبرمج لمشروع التسويات الأوسلوية والتوسعات الإحتلالية في ظل النقص الحاد في موارد البناء ؟؟!!!

كان اتخاذ القرار بتشكيل الحكومة يرمي بحماس في مستنقع هذه المعادلات البنائية الصعبة ،التي لم تكن لها أدنى خلفية مسبقة عن آليات عملها ولا طرق تشغيلها، بسبب الإقصاء الوظيفي الذي مورس عليها طيلة الحكم البائد، حسمت حماس القرار، في خطوة جريئة تستنير بحكمةٍ مفادها من يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.
 
ولا يخفى أن هذا القرار يعني دخول حماس معترك السياسة من بوابة ملغومة عبر فجوة ملئت بالعوائق، إلا أنها قررت الإقدام، لتصنع مرحلة جديدة تضاف إلى مرحلة الدعوة وحمل السلاح دون التخلي عن واحدة منهما، في نقلة نوعية في طرق إدارة الصراع، هي بمثابة زرع بذرة السياسة في الحديقة الإخوانية التي زرعت فيها شجرة المقاومة ،وسرعان ما هبت على بذرتها عواصف المواقف وصواعق المؤامرات، استدعت تأنٍ في العمل ،ووضع آلية للحفاظ على توازن الأولويات بين شجرة المقاومة الراسخة وبذرة السياسة الوليدة.

لتنتقل إلى قرار عسكري جديد، متمثلاًُ في التركيز على نوعية العمل على حساب كمية الإنجاز، ليس تخلياً عن برنامج المقاومة وإنما تدعيما لحديقة المشروع الإسلامي بشجرة القرار السياسي،انضم هذا القرار إلى جملة القرارات الصعبة بما يحمل من دلالات ومؤشرات ،فهو يعني انخفاضاً في وتيرة العمل المسلح الذي يشكل منبع الشعبية الحمساوية، والدخول في معترك لن يرضي الجميع بحال من الأحوال، بما يثيره من غبار الشبهات التي سيستغلها الخصوم في تشويه الصورة المشرقة لمسيرة عظيمة أنجزتها حماس.

لكنها قيادة حكيمة لا تسيرها رغبات العوام ولا أهواء الجمهور، وإنما تعرف أهدافها وترسم خطاها بما يحقق المصلحة للمشروع والتقدم للقضية،صابرة على مزاودات نشاز واتهامات مغرضة، تطعن في مقاومتها وترميها بالانحراف…رغم أنها بددت أوهامهم في عملية الأسر الشهيرة، في نفس الوقت الذي بددت أوهام الأمن الصهيوني،وهنا يشهد لحماس حرصها على مصالح الوطن وحماية القضية وإن كان على حساب شعبيتها المتنامية التي أضحت تغزو البيوت الصفراء في عقر دارها، فضلاً أنها تعلم في قرارة نفسها ،أن أصابعها ما زالت على الزناد، وما هي إلا استراحة الإعداد؛ كالسكون الذي يسبق العواصف، فهي ما زالت تمسك بالمقاومة، وتفتح آفاقاً لسلاح السياسة الجديد، لتزاوجه مع بنادق القسام، فيحصد ما كان يتلفه المنبطحون من زرع الانتفاضة ..فإن وفقت فبها ونعم؛ وإلا فخط العودة مفتوح لا يحول دونه شيء ،لكن لا بد من المضي قدما والصبر على البذرة الجديدة حتى تضرب في الأرض في خطوة بسيطة للخلف من أجل خطوتين كبيرتين للأمام.

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات