السبت 27/أبريل/2024

فتق المشرق .. وفلسطين

أ.د يوسف رزقة

في فكر المؤامرة خيال .. وفي القراءة الاستشرافية خيال أيضاً، غير أننا نرفض عادة المؤامرة، ونتقبل القراءة الاستشرافية، والأمر في حالتي القبول والرفض لا يخرج عن ردات الأفعال، ولا عن عقدة الضغوط الإعلامية.

إن تقبل العالم العربي لفكرة المؤامرة فيما يمس قضاياه له ما يبرره، ذلك أن العالم الاستعماري لا يقوم على العدالة والأخلاق، وإنّ موروث سنوات الاستعمار ثم الاستكبار الأمريكي، تكفي لإقناع العربي بأن وطنه مستهدف، وبالذات في قضايا )الحدود، والأقليات، والطوائف، والاقتصاد، والنهضة الشاملة)، وهنا يذكرنا المقتنعون بفكر المؤامرة بإسرائيل بوصفها الجرح الأكثر إيلاماً في الجسد العربي، وبوصفها نتاج تآمر دولي.

لست هنا بصدد بحث فكر المؤامرة.. ماله وما عليه، ولست معنياً بالحديث عن مؤامرة تاريخية بعينها، غير أن القراءة المتابعة والقراءة الاستشرافية للاستراتيجيات والأحداث تكشف عن شبكة تفاهمات بعضها ناضج، وبعضها قيد التداول بغرض الإنضاج تستهدف قضيتي (اللاجئين والحدود) في فلسطين، ومن ثمّ التطبيع والشراكة مع إسرائيل على قاعدة السلام الاستراتيجي، وحل الدولتين، وتفرغ دول العالم العربي إلى مصالحها

إن قضية اللاجئين في رأي بعض المطلعين على خفايا الأمور ناضجة في أروقة المفاوضات على قاعدة (حل يتفق عليه) مؤسس على عودة بعضهم إلى غزة والضفة، وتوطين آخرين وتعويضهم، والاختلافات تنحصر في بعض التفاصيل، أما قضية الحدود فما زالت بحسب رأيهم قيد الحوار والإنضاج، وهذا يستلزم إشعال نيران كافية لتحقيق هذه الغاية على قاعدة (التبادلية) في حدّها الأدنى.

هناك قيادات توشك أن تنطق بما تسميه إسرائيل بـ(القرار الشجاع) غير أن تهيئة المناخ العام للقرار الشجاع لم تكتمل، لكن جسات النبض مستمرة، ومن أجل ذلك لابد من إحداث فتق جديد في جسد الأمة بعد فتق العراق يكون إعلاناً عن تحول مركزية الصراع في الشرق الأوسط.

في الفكر الصهيوني والاستعماري (السياسي والاقتصادي) على السواء قاعدة تؤمن بنصب عدوٍ يحرك السياسة ويحرك الاقتصاد، فلقد كان السوفييت في الحرب الباردة هو العدو، وبسبب الصراع تحركت عجلة الاقتصاد الأمريكي والغربي نحو التفوق، وتحركت معه عجلة السلاح والسياسة، ثم تفكك السوفييت ولم يعد حلف وارسو قائماً، فأوجد الفكر الاستعماري عدواً جديداً أسماه (الإرهاب) ونسبه إلى الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط.

إن مجموع التقارير، والأخبار، والبرامج الحوارية، والأفلام الوثائقية التي تحدثت عن الإسلام السياسي والإرهاب تتفوق على مثيلاتها التي قبلت في زمن الحرب الباردة ضد السوفييت، وجلّ العالم اليوم يوشك أن يقتنع بخطر الإرهاب، والتعاون في محاربته، مع أن هذا العدو المنصوب يقبل التمايز والتفريق، لأن الغرب مثلا أدخل المقاومة المشروعة في فلسطين في إطاره؟!

الرئيس الإيراني أحمد نجاد تحدث في أشياء مهمة: أولها كذب المحرقة، وثانيها زوال إسرائيل، وثالثها المشروع النووي، وهذه قضايا ثلاث من الحجم الكبير، تكفي لإحداث تحولات بعيدة المدى، لذا فإن إسرائيل تعمل على استثمارها بما يخدم مصالحها، استثماراً لا ينحصر في استجلاب حصار أمريكي لإيران، وإنما يمتد إلى إحداث (فتق) جديد في القناعات السياسية الإستراتيجية لدى النظام العربي يتقرر به تحول عميق في مركزية الصراع، وهو ما عبّر عنه أولمرت بقوله تعقيباً على قمة الرياض: “إن إسرائيل لم تعد المشكلة الأكبر في الشرق الأوسط”.

لقد ساعدت مجموعة من العوامل الموضوعية السياسة الأمريكية الإسرائيلية على إخافة العالم من الإرهاب، واليوم تتضافر مجموعة من العوامل الموضوعية أيضاً تدفع باتجاه إحداث فتق كبير في منطقة الشرق الأوسط بحيث يتجاوز النظام العربي بسببه الصراع العربي الإسرائيلي المركز الأول ، أو على الأقل يقبل بالعرض الإسرائيلي.

الحديث عن إيران ومشروعها النووي -بغض النظر عن طبيعته- هو حديث الساعة، فهو مضمون الخبر والتقرير والصورة وبرامج الحوار في كل الفضائيات، وكأن قضايا الصراع في العالم وجدت حلاً إلا هذه القضية، أو كأن العالم أمام قنبلة نووية اليوم أو غداً، والأمر ليس كذلك كما يقول د. محمد البرادعي الذي أكد في برنامج حواري معه في الجزيرة أن أمريكا تبني سياستها على تخوفات مستقبلية تمتد إلى سنوات لاحقة وليس على شواهد واقعة وكائنة.

ما أقوله وأنقله ليس بغرض الدفاع عن إيران، وإنما بغرض الدفاع عن فلسطين، وعن مركزية الصراع للأمة العربية، حيث التحولات الكبيرة تحدث بأيدي الكبار أيضاً، لقد أتمت إسرائيل برنامجاً نووياً مكتملاً بدون إعلام، فهل هذا بسبب ذكاء قادتها؟ في مقابل فشل قادة المشرق، أم أن الأمر يعود خفاءً وتجلياً إلى طرف ثالث تجسده واشنطن.

في إسرائيل قنبلة ولا إعلام، وفي إيران والعراق سابقاً إعلام ولا قنبلة، إذاً ثمة خلل في استراتيجية الصراع في المنطقة؟ فلماذا الخلل؟! وما مصدره؟! وما تأثيراته على فلسطين والعرب؟!

أعلم يقيناً أن منطقة البترول العربي من أكثر مناطق العالم خطورة وحساسية، وأنها من أكثر مناطق العالم احتفالاً بمستحدثات الأسلحة الثقيلة من بوارج وحاملات طائرات، إضافة إلى أنشطة الاستخبارات العالمية التي لا تفتر على مدار الساعة، بل ولعلها من أكثر المناطق المهددة بحروب مذهبية، وهي في الوقت نفسه من المناطق الأكثر غنى في العالم، وفي وفرة المال.

إن وفرة المال بأيدي أنظمة عربية هو خطر مستقبلي في الرؤية الإسرائيلية يوازي ربما خطر المشروع النووي، وإن تعديل مركزية الصراع في الشرق الأوسط قد يسهم في حل مشكلتي (المال) و(النووي) معا، والأهم من ذلك كله أنه سيسهم بشكل مباشر في عملية إنضاج القضايا المعطلة لحل الصراع العربي الإسرائيلي، وبالذات اللاجئين والحدود، ومن ثم تفعيل الشراكة والتطبيع.

في توصيات (بيكر هاملتون) كلام صريح عن سأم قيادات سياسية إسرائيلية من حالة الحرب والشد العسكري منذ نشأة الدولة وحتى الآن، يوازيه سأم آخر عند النظام العربي من التداول المستمر للقضية الفلسطينية، بينما الرمال تتحرك في مناطق محيطة بالبترول العربي.

في مقال (رالف بيترز، ترجمة: رولا توفيق عبد الحميد) حديث عن تعديلات في الحدود القطرية في المنطقة قد تسفر عن نشأة دولة كردية، وعن توسيع حدود أقطار عربية على حساب الأخرى، ولم يتعرض المقال لمشكلة الحدود في الصراع العربي الإسرائيلي – أو الفلسطيني الإسرائيلي، وهو بحسب بعض الباحثين إهمال مقصود لأنه قيد التفاوض وهناك مشاريع حل على الطاولة ومن تحت الطاولة، لكن المناخ العام الحاضن للقرار الشجاع يحتاج إلى تهيئة أفضل، أو قل إلى فتق جديد يضغط باتجاه قبول ما هو معروض أمريكياً.

إن الخيال جزء أساس في فكر المؤامرة، وهو جزء أساس في القراءة الاستشرافية، وإن الحدود الفاصلة بينهما محدودة، ولكن من الموضوعية أن نقول إنه أمام المؤامرة معوقات، وأمام الاستشراف معوقات، ولكن معوقات إحداث الفتق –لا سمح الله- ضعيفة، أو تضعف يوماً بعد يوم.
 
* وزير الإعلام السابق

الرابط المختصر:

تم النسخ

مختارات